في ظل الاضطرابات الاقتصادية وعدم وضوح الرؤية تتنوع الأصول التي يسعى المستثمرون لوضع أموالهم فيها، في ظل حرصهم على الحفاظ على قيمة ثرواتهم وتنميتها أو بالأدنى تجنب تراجعها، وبين أهم المصادر التي يلجأ إليها المستثمرون العملات الأجنبية والعقارات. ومع الارتفاع المستمر في قيمة الدولار، بدأت التساؤلات تتزايد عن تأثيرات استمرار "الأخضر الأمريكي" في الصعود على سوق العقارات عالميًا، لا سيما في ظل تعدد العناصر الأخرى المؤثرة على سوق العقار من تضخم عالمي، ومخاوف الركود، فضلاً عن تأثيرات الحرب الأوكرانية أيضًا. العقار الأوروبي يكتسب جاذبية خلال النصف الأول من العام الحالي زاد إقبال الأمريكيين على شراء العقارات في أوروبا في ظل ما يوفره الدولار القوي من ميزة نسبية لهم، حيث يحصلون على العقارات الأوروبية بأسعار أقل من تلك التي كانوا يحصلون عليها قبل بدء الدولار رحلة صعوده الحالية التي وصلت به إلى قمم لم يصلها منذ أكثر من 24 عامًا. وتشير التقارير إلى زيادة استثمارات الأمريكيين في العقارات خارج البلاد، بما في ذلك أوروبا وكندا ودول جنوب شرق آسيا، ووصلت نسبة زيادة مشتريات الأمريكيين خارجيًا إلى 18% خلال نصف السنة الأول من 2022، وسط توقعات بأن تتضاعف تلك النسبة مع استمرار ارتفاع الدولار. والشاهد هنا أن المستثمرين الأمريكيين يجدون أنفسم في مقارنة بين أسعار الفائدة التي وصلت إلى 3.25% والاحتفاظ بالأموال في السندات الحكومية وسندات الشركات (بمتوسط 4%) وبين الاستثمار في العقارات في الخارج، وينزع كثيرون إلى الخيار الأخير. وتشير التقارير إلى أن إجمالي التدفقات الاستثمارية عبر الأطلسي بلغ 56.3 مليار دولار في النصف الأول من العام الحالي، وسبب رئيسي وراء ارتفاع رقم التدفقات الاستثمارية هو زيادة التحويلات الأمريكية لبلدان مثل إيطاليا وإسبانيا وحتى بولندا بنسبة بلغت 271% في بعض الحالات، والسبب الرئيسي وراء زيادة تلك التدفقات هو شراء العقارات. بريطانيا "فرصة" ولكن دول مثل بريطانيا أصبحت فرصة للكثير من المستثمرين، حيث انخفضت أسعار العقارات فيها بنسبة 20% في لندن على سبيل المثال مقارنة بأسعار العام الماضي، وبالنسبة لكثير من المستثمرين الأجانب فإن الانخفاض في السعر واقعيًا كان أكبر من تلك النسبة مع استمرار انخفاض قيمة الجنيه الإسترليني بشكل ملحوظ (انخفض الجنيه الإسترليني بنسبة 17.5% منذ بداية العام أمام الدولار). وفي بعض المناطق في شمال بريطانيا انخفضت الأسعار بنسبة 30% مع مخاوف ركود يطال كل عناصر الاقتصاد بما في ذلك العقارات التي تشكل باستمرار إحدى أهم منصات توجيه الأموال في بريطانيا، لا سيما في الأماكن الحضرية وضواحيها. وعلى سبيل المثال فإن منزلًا قيمته 5 ملايين جنيه إسترليني في مقاطعة "نايت بريدج" عام 2014 كانت قيمته تعادل 8.6 مليون دولار، ومع التراجع في قيمة العقار خلال هذه الفترة ومع تدهور قيمة الجنيه الإسترليني في مقابل الدولار أصبحت قيمة العقار نفسه 4 ملايين دولار أي أنه –مقيمًا بالدولار- خسر أكثر من نصف قيمته في 8 سنوات فحسب. وتشير التوقعات في بريطانيا إلى المزيد من الانخفاض في أسعار العقارات خلال الفترة المقبلة، وحتى منتصف 2023، وما قد يوازن السوق العقارية هناك هو قيام المزيد من المستثمرين الأجانب بضخ الأموال في القطاع استغلالًا لتراجع العملة الإنجليزية ولكن تبقى التوقعات الأساسية بالمزيد من التراجع للسوق مع إمكانية حصول ارتداد في السوق بعد انخفاض التضخم أو حدوث الركود الذي تهيأت الأسواق إلى حد بعيد لحدوثه. ولا تقتصر جاذبية العقارات الأوروبية والإنجليزية على الأمريكيين فحسب، بل على كل الدول التي تربط عملتها بالدولار من جهة، وعلى الدول التي لم تتراجع عملتها نسبيًا مقارنة باليورو والإسترليني مثل الصين التي تزايدت مشتريات مواطنيها من العقارات الأمريكية رغم الخلافات الاقتصادية بين البلدين. الولايات المتحدة وتوقعات بالتراجع أما في الولايات المتحدة نفسها فالوضع عكس ما هو قائم في أوروبا، فمع ارتفاع الدولار أمام سلة العملات الرئيسية، فإن أسعار العقارات الأمريكية ارتفعت بنسبة 30-43% بين عامي 2020 و2022، وذلك بفعل ارتفاع الطلب على العقارات خلال عامي الوباء من جهة، فضلاً عن زيادة السيولة في الاقتصاد الأمريكي من جهة أخرى. وفي هذا الإطار، تشير توقعات "رامزي سوليوشنز" للاستثمارات العقارية إلى توقعها بتباطؤ نسبي في نمو العقارات الأمريكية سعريًا خلال الفترة المقبلة، بحيث لا تتخطى 4% خلال النصف الثاني من عام 2022 وخلال عام 2023، إلا أنها ترى أن سوق العقار ستظل بنسب نمو موجبة حتى إذا تعرض الاقتصاد الأمريكي لركود. وفي المقابل، تتوقع غالبية التقارير أن تؤثر حالة الركود المتوقعة في السوق الأمريكية خلال 2023 على أسعار العقارات هناك، حيث تتوقع "فورتشن" أن تتراجع قيمة العقارات الأمريكية عن مستوياتها الحالية بنسبة 7% بنهاية عام 2023، بينما يتوقع "جولدمان ساكس" أن تواصل أسعار العقارات الأمريكية التراجع الذي بدأته منذ سبتمبر الماضي. وتشير توقعات البنك الشهير إلى تراجع الطلب على العقارات الجديدة بنسبة 22% خلال عام 2023 وعلى شراء العقارات القائمة بنسبة 17%، بما سيؤدي لانكماش الدخل من القطاع العقاري بنسبة 8.9% ككل. أسباب التراجع ولهذا الانكماش المتوقع أسباب كثيرة منها الركود المحتمل وعودة سوق العقارات إلى أنماط ما قبل الوباء (من إقامة بعض الناس مع بعضهم البعض)، في الوقت الذي يتراجع فيه الطلب على العقارات التجارية ويتراجع سعرها بفعل اعتماد منهج العمل من المنزل في الكثير من الشركات الأمريكية. ويجعل هذا الأمر سوق العقار الأمريكية غير جاذبة للمستثمرين الخارجيين، باستثناء هؤلاء الذين يراهنون على تراجع الدولار عن قممه السعرية الحالية من جهة، فضلًا عن استمرار النمو السعري فهذا فقط ما من شأنه أن يجعل الحصول على العقارات الأمريكية صفقة رابحة للأجانب في الوقت الحالي. والشاهد أن استمرار البنك الفيدرالي الأمريكي في رفع الفائدة الأمريكية التي وصلت 3.25% وسط توقعات باستمرار هذا الاتجاه مع بدايات عام 2023 على الأقل في ظل صعوبة السيطرة على التضخم في الولايات المتحدة حتى الآن، والذي يصر البنك الفيدرالي على الوصول به لـ2% فحسب، تجعل الرهان على تراجع الدولار أمرًا غير منطقي. وعلى سبيل المثال، ارتفعت أسعار العقارات الأمريكية على المشترين الكنديين بنسبة تصل إلى 71% بسبب تراجع سعر الدولار الكندي في مواجهة نظيره الأمريكي من جهة وارتفاع أسعار العقارات من جهة خرى بما أدى لتراجع كبير في الطلب الكندي على العقارات الأمريكية رغم القرب الجغرافي واتصال الأسواق بصورة كبيرة. ويميل المستثمرون في الأسواق العقارية في الفترة الحالية في أوروبا والولايات المتحدة إلى شراء "عقارات الرفاهية" حيث تعتبر هذه العقارات "صديقة للركود"، حيث تشير الدراسات إلى أنها كانت الأقل تأثيرًا خلال أسوأ فترات العقار بما في ذلك الأزمة الاقتصادية العالمية. فخلال الأزمة التي بدأت أولا بفعل فقاعة عقارية، هوت بأسعار العقار بنسبة حتى 45% في المناطق الحضرية الأمريكية، إلا أن "عقارات الرفاهية" مثل القصور والأبراج الفندقية وغيرها لم تتراجع إلا بنسبة 12%، وفي ظل الركود المحتمل فإن أسعار تلك العقارات مرشحة للارتفاع وليس التراجع. والشاهد أن سوق العقارات في الدول النامية شهدت تراجعًا كبيرًا وكسادًا في الكثير من الدول، في ظل ميل الكثير من المتعاملين في الأسواق إلى تحويل عملاتهم المحلية -لا سيما تلك التي تشهد تدهورًا في قيمتها- إلى الدولار لحفظ قيمة المدخرات (أو الاستثمارات) بما يؤثر على حركة البيع والشراء في الدول النامية بالسلب. وبشكل عام يبدو أن الدولار الأمريكي القوي أوجد شهية عالمية لشراء العقارات الأوروبية، غير أن الرهان هنا يُبقي شراء تلك العقارات في قاعها السعري، وفي المقابل جعلت قوة العملة الأمريكية شراء العقار الأمريكي أمرًا محفوفًا بالمخاطر، بينما تبقى الدول النامية دائمًا في صدارة من يعاني بسبب قوة الدولار.
مشاركة :