لعب المنتخب الإنجليزي ست مباريات في دوري الأمم الأوروبية، لم يحقق خلالها أي انتصار ولم يسجل سوى هدفين فقط من اللعب المفتوح، وهو الأمر الذي يثير الكثير من القلق قبل فترة وجيزة من انطلاق نهائيات كأس العالم في قطر. ومع كل أداء مخيب للآمال، تزيد الانتقادات على المدير الفني لمنتخب الأسود الثلاثة، غاريث ساوثغيت، الذي يُتهم بأنه غير قادر على استغلال المواهب الكبيرة الموجودة تحت تصرفه، وبأنه متحفظ للغاية أثناء المباريات، ويعتمد بشكل كبير على لاعبين معينين. لكن أكثر انتقاد يوجه للمدير الفني الإنجليزي هو أنه عملي ومتحفظ للغاية. وفي حين أنه من العدل انتقاد الفريق لأنه لا يقدم كرة قدم جميلة وممتعة هذا العام، فإن البراغماتية ليست شيئاً سيئاً في كرة القدم على مستوى المنتخبات. فإذا ما ألقينا نظرة على البطولات الكبرى خلال العقود الأخيرة سنجد أن البراغماتية ربما تكون نقطة قوة وليس العكس. ربما يختلف الأمر تماماً عن كرة القدم على مستوى الأندية، حيث إن الأندية التي تقدم كرة قدم هجومية وممتعة هي التي غالباً تفوز بالبطولات والألقاب، لكن الفوز بكأس العالم أمر مختلف تماماً. السبب وراء ذلك واضح تماماً، وهو أن المديرين الفنيين للمنتخبات لا يقضون وقتاً طويلاً مع اللاعبين، على عكس ما يحدث في الأندية. وبالتالي، من الصعب للغاية أن تلعب المنتخبات بالطريقة نفسها التي تلعب بها أندية مثل مانشستر سيتي وليفربول، والتي تعتمد على الضغط العالي والتمريرات الدقيقة والهجوم المكثف، وهذه هي المشكلة التي يواجهها الكثير من المديرين الفنيين. وقال روبرتو مارتينيز، المدير الفني لمنتخب بلجيكا، في كتاب جديد بعنوان «كيف تفوز بكأس العالم»: «على مستوى الأندية، يكون لديك 60 حصة تدريبية من أجل إعداد فريقك لأول مباراة له في الموسم. من المسلّم به أنني لا أستطيع العمل بالطريقة نفسها؛ لأنه على مستوى المنتخبات لا يكون لدينا سوى خمسة معسكرات كل عام؛ لذا فالأمر يختلف عن لقاء اللاعبين كل يوم». وبالتالي، فإن هذه القيود تجعل المنتخبات التي تسعى للفوز بالبطولات تعطي أولوية للأساسيات، وعدم الخسارة في المقام الأول. قد يكون هذا محبطا للجماهير، خاصة في العصر الحديث، لكن من الجدير بالذكر أن العديد من المديرين الفنيين الذين فازوا بكأس العالم كانوا يتعرضون لضغوط هائلة من قبل المشجعين قبل انطلاق البطولة. ولعل أبرز مثال على ذلك هو منتخب الأرجنتين في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات من القرن الماضي. نتذكر جميعاً كيف قاد النجم دييغو أرماندو مارادونا راقصي التانغو للحصول على كأس العالم 1986 ثم إلى النهائي بعد أربع سنوات في مونديال إيطاليا عام 1990، لكن المشجعين الأرجنتينيين كانوا ينتقدون المدير الفني كارلوس بيلاردو كثيراً بسبب براغماتيته. لقد لعب المنتخب الأرجنتيني بشكل سيئ خلال التصفيات المؤهلة لنهائيات كأس العالم 1986، إلى جانب اعتماد بيلاردو على طريقة محافظة وحذرة؛ وهو ما جعل الكثيرين يتساءلون عما إذا كان هو الرجل المناسب لقيادة المنتخب الأرجنتيني في المونديال! وقال بيلاردو في وقت لاحق «تعرضنا للانتقادات بسبب الطريقة التي نلعب بها وبسبب اختياراتي للاعبين، بل وذهب البعض إلى انتقادي لاختياري مارادونا كقائد للفريق. لم نكن حتى في قائمة المرشحين للفوز بالبطولة، لكننا استفدنا من ذلك». وساءت الأمور للدرجة التي جعلت بيلاردو يرتب على عجل لإبعاد الفريق عن أميركا الجنوبية مبكراً، مع انتشار شائعات بأنه سيقال من منصبه. لم يكن من الغريب أن يعول بيلاردو كثيراً على مارادونا، الذي قاد منتخب بلاده ببراعة للفوز بكأس العالم، وتألق بشكل لافت للأنظار على الرغم من أن المدير الفني كان يلعب بطريقة حذرة تعتمد على تأمين الجوانب الدفاعية في المقام الأول. يقول نيستور كلاوسن، الذي كان أحد لاعبي منتخب الأرجنتين ذلك الوقت «كان بيلاردو مدرباً يعتمد في المقام الأول على الجوانب التكتيكية، لكن مع مارادونا لم يكن بإمكانك التحدث عن الخطط التكتيكية أو الجوانب الفنية؛ لأنه كان يبتكر أشياء وليدة اللحظة. ولو كان مارادونا قد لعب بالأسلوب التكتيكي الذي وضعه بيلاردو، لما سجل الهدف الذي سجله في مرمى إنجلترا، والذي انطلق فيه بمفرده وراوغ كل من قابله ليسجل هذا الهدف الاستثنائي». ولم يكن بيلاردو هو المدير الفني الوحيد الذي اتهم بتقييد قدرات لاعبيه المبدعين، حيث تعرض كارلوس ألبرتو باريرا لانتقادات لاذعة بسبب اعتماده على طريقة دفاعية قبل أن يقود المنتخب البرازيلي للفوز بكأس العالم في الولايات المتحدة عام 1994 بعد غياب دام 24 عاماً. وبعد أربع سنوات، تعرّض المدير الفني لمنتخب فرنسا، إيمي جاكيه، للانتقادات نفسها، بسبب تركيزه على اللعب الدفاعي واعتماده على خط وسط يضم ديدييه ديشامب وإيمانويل بيتي، في الوقت الذي ترك فيه لاعبين أكثر إبداعاً على مقاعد البدلاء. وتزايد هذا الاستياء خلال البطولة، لكن سرعان ما تم نسيان هذه القصة تماماً عندما فازت فرنسا على البرازيل في النهائي بثلاثية نظيفة. ثم كرر ديشامب الأمر نفسه عندما قاد فرنسا للفوز بكأس العالم للمرة الثانية في تاريخها في عام 2018، على الرغم من الانتقادات الكثيرة التي وجهت له بسبب استبعاده لكريم بنزيمة وفشله في استغلال القدرات الكبيرة للعديد من اللاعبين الموهوبين. وتضم قائمة المديرين الفنيين الذين قادوا منتخباتهم للفوز بنهائيات كأس الأمم الأوروبية العديد من المديرين الفنيين الذين انتصروا لأنهم لعبوا بطريقة براغماتية – مثل منتخبات الدنمارك واليونان والبرتغال. وحتى المنتخب الإسباني العظيم الذي بدأ فترة من الهيمنة على كرة القدم العالمية بالفوز ببطولة كأس الأمم الأوروبية عام 2008، كان يعتمد على الاستحواذ على الكرة كشكل من أشكال الدفاع بقيادة مديره الفني لويس أراغونيس. وكتب سيد لوي بعد فوز إسبانيا بكأس الأمم الأوروبية «كان أراغونيس هو من استخدم التيكي تاكا لحماية الدفاع الذي بدا هشاً (لكنه كان يعمل على تقويته دائماً)، والاستحواذ على الكرة والسيطرة على المباريات». وذهب أراغونيس إلى تلك البطولة بعد أن تعرّض للسخرية من المشجعين والانتقادات من الصحافة الإسبانية بعد أن استبعد راؤول، وهو ما يثبت أن الهجوم الجماهيري لا يمنع المدير الفني من الفوز بالبطولات إذا كان مقتنعاً بآرائه وأفكاره. وحقق يواخيم لوف أيضاً أكبر نجاحاته بعد أن اعتمد على طريقة أكثر تحفظاً. فعندما تولى القيادة الفنية لمنتخب ألمانيا بعد أن عمل كمساعد ليورغن كلينزمان في كأس العالم 2006، كانت هناك شكوك بشأن ما إذا كان هو الرجل المناسب لقيادة الفريق أم لا. وتحت قيادة لوف، خسر المنتخب الألماني، الذي كان يضم كوكبة من النجوم الموهوبين، أمام إسبانيا في نهائي يورو 2008 قبل أن يخرج من كأس العالم 2010 ويورو 2012 من الدور نصف النهائي. لقد كان المنتخب الألماني يعج آنذاك باللاعبين الرائعين في النواحي الهجومية، لكن لوف أدرك أن السذاجة الدفاعية تكلف الفريق غالياً، وأنه يتعين على الفريق أن يلعب بطريقة متوازنة إذا كان يريد حقاً الذهاب بعيداً في البطولات الكبرى، ونجح في نهاية المطاف في قيادة منتخب بلاده للفوز بكأس العالم 2014. إنه درس يجب على مشجعي المنتخب الإنجليزي التعلم منه. قد لا يكون المنتخب الإنجليزي، بقيادة ساوثغيت، قادراً على اكتساح المنتخبات المنافسة مع اقتراب كأس العالم، لكنه ليس بعيداً عن إمكانية الفوز على المستوى الدولي كما قد يبدو للبعض!. ويقول ساوثغيت الذي قاد إنجلترا إلى نصف نهائي مونديال روسيا عام 2018 ونهائي كأس أوروبا عام 2021 «دائماً ما تكون الضجة أعلى وأكثر انتشاراً مع المنتخب الوطني وأنا أتفهم هذا الأمر تماماً ولا أختبئ من ذلك، إنها وضعية لا نستمتع بها عندما لا نفوز بمباريات كرة القدم. لكن علينا أن نواصل القيام بالأشياء الصحيحة كل يوم من أجل مواصلة تحسين أجزاء صغيرة من أدائنا يمكن أن تحدث فرقاً». وأوضح «إذا قمنا بمقاربة كل يوم بهذه الطريقة وحافظنا على معايير عالية، ستأتي العروض وستتغير النتائج في النهاية». وأضاف «ستكون هذه سابع (بطولة كبرى) لي كلاعب أو مدرب. لقد عشت كل شيء إلى حد كبير: الحرب مع وسائل الإعلام، الحب المطلق، (الآن) نحن في مكان ما في منتصف ذلك، أو ربما لسنا في الوسط، لكني على ثقة بأننا سنكون أفضل في كأس العالم»... وهذا ما تتنظر الجماهير تحقيقه منذ التتويج الوحيد عام 1966.
مشاركة :