استغرق الأمر بعض الوقت، لكننا وصلنا لهذه النتيجة أخيرا. إن لويس فان غال لا يعاني تراجعا في مانشستر يونايتد فحسب، بل يبدو أن طبيعة رحيله عن النادي في النهاية – والتي بدأ أنها تتمحور حول تميزه وثقافته والمفكرة التي يحملها – وأصبحت واضحة كذلك. ومن واقع دارسة التغطية الصحافية المشوبة بالاهتياج والنشوة حول كفاح فان غال مع فريقه المتعثر، يتوقع المرء أن يجد في صفحات وسائل الإعلام الرياضية صورة لمدرب مانشستر يونايتد وهو يتجول حول الملعب مرتديا قبعة نابليونية، ويطالب بضم الجيزة وأهراماتها فورا إلى الإمبراطورية الفرنسية العظيمة! وكما لاحظ فان غال نفسه من دون شك، فهناك نغمة وتركيبة معينة للفشل التدريبي في الدوري الإنجليزي الممتاز. أو على الأقل تكون هذه النغمة موجودة عندما يتعلق الأمر بمدرب يرتكب خطأ الظهور بمظهر الأكاديمي والمنهجي والأجنبي. «أرسين من؟»، كان العنوان الرئيسي الشهير للتغطية الصحافية للإعلان المثير للسخرية عن تعيين آرسنال المدرب الفرنسي أرسين فينغر لخلافة بروس ريوتش. وعلى رغم الطبيعة العالمية المثيرة التي يتميز بها الدوري الإنجليزي، فما زال هناك نزعة للانكفاء على الداخل. وليس هذا من قبيل التماس العذر للفريق الحالي، فمن الواضح أن مانشستر يونايتد بقيادة فان غال مخيب للآمال. والبطء هو سمة لعبه. وتبدو بعض الصفقات الجديدة دون المستوى. وكل مراكز الفريق تعاني نقصا. وكان خروج الشياطين الحمر من دوري رابطة أبطال أوروبا بمثابة نقطة فشل حقيقية وحاسمة. وربما كان أفضل ما يمكن التنبؤ بأن يصل إليه فان غال، ذو السن المتقدمة، وفي آخر مهمة تدريبية له، هو تحقيق بعض الاستقرار في الفريق، إلى جانب إنهاء الموسم بالتواجد ضمن الأربعة الكبار مجددا، وذلك خلال هذه المرحلة الانتقالية للنادي. الأمر المثير للاهتمام أكثر، وفي واقع الأمر، الأهم، بالنسبة إلى ثقافة الكرة الإنجليزية على النطاق الأوسع، هو كيف تتم ترجمة هذا الإخفاق. إن المدربين من أمثال فان غال لا يفشلون فحسب في هذه الحالة أو يرتكبون الأخطاء. فهم عندئذ يتعرضون للفضيحة، وعدم المساعدة، ويوصفون بالجنون والحماقة. وقد بدأ بالفعل استخدام الأوصاف الساخرة ضد فان غال، من خلال الإشارة على نحو مؤسف إلى حافظة أوراقه (الأحمق صاحب الحافظة!) ورفضه النهوض والصياح في لاعبيه من خط الملعب. ورغم أن فان غال يبدو بصحة جيدة وهو في عامه الـ66. فقد تحولت إحدى الصور الفوتوغرافية التي يظهر فيها مرتبكا وأشعث على نحو مروع، إلى عامل مثير للعداء ضد المدير الفني الهولندي. ونشرت الصورة مرفقة بافتتاحية لإحدى الصحف، كانت تتحدث عن فان غال على نحو مثير للشفقة. وهذا الأسبوع، تم تصوير رغبة فان غال في مقابلة آباء اللاعبين بغرض تقييم ما سيبدون عليه في المستقبل (وهذا أمر يفعله كافة مدربي كرة القدم والكريكيت وكرة السلة) على أنها عمل شديد الغرابة. الآن تحول إلى «فان غال المجنون»، مجنون بكلماته، مجنون بمفكرته، مجنون بشعره، مجنون بمحاولته لفهم الأشياء. وهذا يسوقنا إلى نفس أسلوب الهجوم على مدرب ليفربول يورغن كلوب، ونعته بـ«يورغن المجنون». لقد تحول كلوب الذي حل محل الآيرلندي براندن رودجرز، من مدرب ساحر وصاحب فكر متطور، في غضون بضع أسابيع، إلى شخص يوصف بأنه «ما زال يتعلم عن الدوري الإنجليزي» إلى تصاعد أصوات الغضب والقلق من فشل الأجانب. في حالة فان غال، ليس من الصعب التماس العذر لأداء مانشستر يونايتد العقيم حاليا. لقد كانت طريقة لعب المدرب الهولندي تعتمد دائما على الحفاظ على شكل لصفوف الفريق أشبه بالبناء. على هذا النحو، يظل المهاجمون في أقصى النقاط التي يمكنهم التواجد بها، وخلق المساحات، وانتظار هفوات المنافس، والثقة في احتفاظ لاعبيك بالكرة. نجح هذا الأسلوب في بعض الأحيان. في مواجهة ليفربول على ملعب أنفيلد في مارس (آذار)، سجل الشياطين الحمر هدفين رائعين بفضل تمريرات قطرية سريعة إلى لاعبين تمكنوا من الحفاظ على تمركزهم وخلق المساحات. والمشكلة أن أسلوب اللعب هذا قد تراجع قليلا الآن، إذ أن لاعبي الدرجة الأولى الذين اعتادوا، أو تدربوا أو تم استقدامهم لتنفيذ الأوامر والضغط على حامل الكرة لا يقومون بهذه التحركات، وغير قادرين على الأداء بشكل منظم وذكي في المناطق الهجومية، وهما أمران مطلوبان لنجاح طريقة اللعب. وثمة حديث يدور عن تراجع مستوى واين روني، وهو لاعب تحركه «غريزته» الكروية، وهو مثقل بالتعليمات التكتيكية. بالطبع هذا فشل يتحمله روني نفسه، ويعكس مشكلة معروفة في الكرة الإنجليزية. وعلى نفس المنوال، دائما ما كان فان غال يفضل اللاعبين صغار السن لكونهم أكثر تقبلا للتعليمات وأكثر حماسا لتنفيذ الأفكار الجديدة. مرحبا في إنجلترا، أيها المدرب فان غال، حيث دائما ما تصطدم المقدرة على التفاعل السريع مع معطيات المباراة وقراءتها، بثقافة أكثر جمودا وأقل بحثا. ربما كان فان غال يستطيع انتزاع هذه القدرات من فريقه وهو في عامه الـ45. أما النسخة الحالية من فان غال «المتقاعد»، فقد تواجدت في بيئة جامدة ومثيرة للإحباط. ومع هذا، فليس ثمة حاجة لتقديم هذه الأعذار. فأيا ما كانت الأسباب المتعلقة ببناء الفريق، وبصرف النظر عن مدى قدم طريقة الاستحواذ مقارنة بتجارب اللعب المعتمدة على التكتيكات المتنوعة في دول أوروبية أخرى، فقد سقط فان غال في الفشل العادي: وهو نوع الفشل المعتاد والمفهوم تماما، والناجم عن القرارات السيئة المتكررة، والإصابات، وغياب التوفيق، وسوء التقدير، وسوء التوقيت. وبرغم هذا يظل الكثير من التقييم انفعاليا ومتعصبا على نحو غير مفيد، إذ يهيمن عليه كبرياء ناد كان فيما سبق سيد أوروبا المبجل، وشاهدا على قوة الكرة الإنجليزية التي لا تقهر، وعنفوانها. المفارقة هنا أن فان غال ما زال يمثل، من الناحية المنهجية إن لم يكن من حيث النتائج، الكثير من الأشياء التي دأبت الكرة الإنجليزية على إهمالها. وهي أشياء ينبغي للكرة الإنجليزية أن تظل تواقة إلى تعلمها: مثل القيادة الفنية والتطوير، والاستعداد لابتكار نظريات اللعب وتطوير كرة قدم تعتمد على الأفكار، قدر اعتمادها على الجهد والإلهام. سيظل فان غال كفاءة تدريبية عظيمة، مهما تعرض للاستهزاء من الكرة الإنجليزية. وما تفعله الجماهير معه، وما يمكن للكرة الإنجليزية أن تتعلمه حتى من إخفاقه، هو الأمر أكثر أهمية. تجدر الإشارة إلى طبيعة المهمة الموكلة إلى فان غال في مانشستر يونايتد، وقائمة المطالب واضحة: إعداد فريق ينافس على الألقاب. الوصول إلى دور الـ16 في البطولة الأوروبية. طريقة لعب ممتعة. وكل هذا في غضون 18 شهرا. هذا بالإضافة إلى أنه في إنجلترا، لا يعني هذا مجرد تحسين، أو تثبيت بعض اللمسات النهائية، وإنما تطوير أداء الفريق بالكامل. يخوض فان غال بطولتين على الصعيد المحلي في وقت واحد، وفي ظل عدم وجود فترة توقف شتوية، وعدم وجود أي مباريات سهلة فهو مطالب بإعداد فريق من الصفر. لقد كان بمقدور لويس إنريكي، مدرب برشلونة، أن يبني فريقه الفائز بدوري الأبطال، والذي انتزعه من الشياطين الحمر، على قوام من ستة لاعبين – من بينهم 4 من أبناء النادي – سبق لهم تحقيق اللقب في 2011. أما بالنسبة ليونايتد، فلم يتبق من عناصر الفريق التي خاضت النهائي الأوروبي في مواجهة برشلونة آنذاك، سوى روني ومايكل كاريك وأنطونيو فالنسيا. كذلك يواجه فان غال اتهاما بتبديد الأموال على لاعبين غير مناسبين، وهي خطيئة لا تغتفر في الدوري الإنجليزي الممتاز. لكن الإنفاق مسألة لا دخل له بها فعليا، فمهاراته تتمثل في تحقيق التطوير والتحسين والتكامل. بنفس الوتيرة، فإن كلوب، الذي استغرق منه الأمر 3 سنوات ليصنع من بروسيا دورتموند هذا الفريق الرائع والمنضبط، يعاني لفك شفرة فريق ليفربول الذي تعاقب عليه 3 مدربين، في ظروف مختلفة، وينتمون لمدارس تدريبية وتكتيكية مختلفة. في آخر 5 سنوات، تعاقد ليفربول مع 50 لاعبا، وهو ما يوازي تقريبا شراء فريق كامل كل عام. وخلال آخر موسم للسير أليكس فيرغسون مع مانشستر يونايتد، فقد الشياطين الحمر خدمات الدولي الفرنسي بول بوغبا من دون مقابل، واستقدموا 5 لاعبين نظير 53 مليون يورو، وقد رحلوا جميعا عن الفريق في وقت لاحق. في ظل كل هذه الظروف، فتوقع التعثر وتواصل الغربلة وإعادة تنظيم الصفوف في 18 شهرا، هو أمر لا ينم عن جنون وإفراط في التنظير، بقدر ما هو دليل على مدى الهياج الذي وصلت إليه نخبة الكرة الإنجليزية. ربما آن الأوان للاعتراف – وهذه واحدة من الأفكار – بأن طرد المدرب قد يكون هو عين المشكلة هنا وليس الحل. قد يكون التخلص من فان غال أفضل خيار الآن، غير أنه قد يخلق مجموعة من المشكلات الأخرى في نفس الوقت، وكل منها يضاعف من فرص الفشل، وينصب للمدرب الجديد نفس الشراك القديمة. وهذا لا يقتصر فقط على الدوري الإنجليزي. ففي ريال مدريد على سبيل المثال، تولى زين الدين زيدان القيادة الفنية، خلفا لرافائيل بينيتيز، والذي سبقه كارلو أنشيلوتي، الذي جاء بعد جوزيه مورينهو الذي أعقب بدوره مانويل بيليغريني. كل أولئك يمثلون أساليب لعب وتكتيكات وطرق تدريب مختلفة. والنتيجة هي ضياع المواهب الصاعدة، في حين تعثرت بشكل مفاجئ مسيرة عدد من اللاعبين الذين تطلب إعدادهم جهدا أكبر. بل إن نجوما يحتاجون للبدء من جديد، وتألق غاريث بيل من جديد في الأسابيع الأخيرة يشهد على ذلك. يمكن للبعض أن يتأقلموا مع هذا التحدي أمثال المدرب أندريه فيلاس - بواس مع تشيلسي، وموريسيو بوكيتينو الذي تألق مع اثنين من الأندية الإنجليزية ذات الوضع الحساس نسبيا. لكن خلاف هذه الأمثلة، فالصبر مهم كذلك. لقد احتاج فان غال لـ3 سنوات من أجل تحقيق أول ألقابه في الدوري مع أياكس الهولندي، و4 سنوات للفوز بلقبين لدوري الأبطال. كذلك احتاج كلوب 3 سنوات لتحقيق مركز متقدم عن المركز الخامس في الدوري الألماني «البوندسليغا». بعد ذلك حدث التوهج والفوز بلقبين للدوري، نتيجة بناء فريق متكامل نضج بشكل جماعي. في مثل هذه الظروف يكون الإخفاق والاختلافات والانتقادات جزءا من اللعبة، ومسألة مثيرة للاهتمام، بل جزءا من عملية السعي الأوسع نطاقا وراء إدراك النجاح المستدام. سيحصل يورغن كلوب المتهم بالجنون على الكثير من الوقت. ومن يتأقلمون مع طريقته سيكونون بشكل تلقائي ضمن تشكيله الحالي، وسيتم اختيار الآخرين، وسيكون هناك فريق في النهاية. كلوب يتمتع بدرجة من النجومية في ليفربول ستمنع التعجل في الإطاحة به. لكن ليست هذه هي حال فان غال، الذي من المرجح أن تكون إقالته أقرب مما هو مقرر لها. وحتى في ظل إثارة البدايات الجديدة، سيواصل فريق مانشستر يونايتد بوضعه الحالي التحرك بأقل سرعة، والمعاناة في سبيل تحقيق النجاح.
مشاركة :