«آكلو البطاطا» لفان غوغ: جماليات الجوع

  • 1/9/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

على عكس ما قد يعتقد كثر من متابعي أعمال رسام نهايات القرن التاسع عشر الأبرز، فنسان فان غوغ، لم يكن هذا الأخير شاباً مبتدئاً، حين رسم تلك اللوحة البائسة المعتمة التي قد تصدم المشاهد بقبحها، قبل ان تتبين له أهميتها، ونعني بهذا طبعاً لوحة «آكلو البطاطا» التي حققها الفنان في العام 1885 وكان في الثانية والثلاثين من العمر. والحال أنه يصعب على أي كان أن يخمّن ان هذه اللوحة هي حقاً من انتاج ذلك الفنان الذي حوّل المعالم والبشر والمناظر الطبيعية الى كتل من الخطوط والألوان الرائعة خلال السنوات القليلة التي سيعيشها بعد ذلك (أقل من ست سنوات). وهي الفترة التي شهدت سباقه المحموم مع الزمن، وانكبابه ليلاً ونهاراً على إنجاز لوحات لم يكن ليعبأ كثيراً ما الذي سيكون عليه مصيرها. فهو راح خلال تلك السنوات القليلة وكما تقول لنا حكايته، ينجز مئات اللوحات ولكن دائماً في مناطق متفرقة من فرنسا بعيداً من وطنه الأصلي هولندا، وفي اختلاف بيّن مع تلك اللوحة التي نتحدث عنها، هنا والتي تعتبر على اية حال قمة ما حققه في مرحلته الهولندية الأولى. وهي فترة كانت تأسيسية وشديدة الغنى الفني في حياته، ولكن من ناحية سنجدها بعد كل شيء متناقضة مع مرحلته الأخيرة: فمرحلته الهولندية كانت مرحلة تحفل بالرسائل الاجتماعية والتعبير عن بؤس الإنسان وهزيمته الطبقية. ونعرف أن هذا كله لن يكون ذا وجود في فنه خلال سنواته الفرنسية. بحيث يبدو وكأن لدينا في شخص فان غوغ، فنانين متناقضين تماماً: واحد مناضل إجتماعي عبّر عن نفسه في جملة من أعمال قاتمة اللون واضحة الرسالة، وثانٍ يحتفل بالجمال والطبيعة مستخدماً الألوان للتعبير عن حب للحياة. ولعل الغرابة كل الغرابة في هذا كله ان فنسان فان غوغ الذي رسم الرسائل النضالية البؤسوية في أعمال أولى، كان في ذلك الحين، معروفاً بنوع من الإقبال على الحياة والرغبة من النهل مما تتيحه، بينما كان فنسان فان غوغ الآخر، المحتفل في لوحاته بتلك الحياة، رجلاً مكتئباً تنخره الأمراض والفقر، ولا يرتدع عن محاولة الانتحار. > «في وسط تلك الفوضى العارمة، أعترف بأنه قد أثارت اشمئزازي جلسة الطعام تلك التي تجمع بين أناس بائسين جالسين في غرفة عتمة لا يضيئها سوى قنديل شاحب. لقد أطلق الرسام على لوحة اسم «آكلو البطاطا». وتبدت لي لوحة قبيحة لكن قبحها كان رائعاً، وهي نفسها كانت محملة بنوع من النشاط الذي يدق جرس الإنذار أمام مشاهدها». بهذه الكلمات عبر إميل برنار ذات يوم عن نفسه وعن مشاهدته للوحة فان غوغ هذه. غير ان برنار لم يكن يعرف آنذاك ان هذه اللوحة الكئيبة كانت أول لوحة أقدم فان غوغ على رسمها إثر وفاة والده في أواخر شهر آذار (مارس) 1885. وهي الوفاة التي أدت يومها الى تفاقم الخلاف بين فنسان واخته آنا ما دفعه الى مبارحة البيت العائلي ليقيم بعض الوقت ويرسم في غرفة صغيرة ملحقة بالدير المحلي. وهو هناك، بين نيسان (أبريل) وأيار (مايو)، انجز هذه اللوحة التي ما لبث معارفه ان انتقدوها، بل ما لبث رهبان الدير، لغضبهم منه ومن اللوحة، ان حظروا على اي من سكان القرية الوقوف امامه كموديل باعتبار ان الرسام يستخدمه للتعبير عن القبح. ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذ نشير هنا، في هذا السياق، الى أن هذا كله كان السبب الحاسم الذي دفع الفنان الى مبارحة القرية ثم الوطن كله، وربما ايضاً، وفي شكل موارب، الى التخلي عن التعامل في لوحاته مع مشاهد البائسين. > مهما يكن من أمر، لا بد من الإشارة هنا الى أن «آكلو البطاطا» انما كانت ذروة في مرحلة رسم فيها فان غوغ، وكأنه فنان ملتزم بقضايا البؤس والظلم الاجتماعي. وحسبنا للتيقن من هذا أن نتذكر البؤس، مثلاً، على سمات «امرأة فلاحة» (1885)، وكآبة «باذر الحبوب»، وتهافت المواطنين على باب «مكتب اليانصيب الوطني» (1882) من دون ان ننسى السجناء المتجولين في فناء السجن. ومع هذا فإن اللوحة التي نحن في صددها هنا تبدو شيئاً آخر. انها البؤس الخالص، علماً أن فنسان نفسه كان يعتبرها لوحته الأولى، حيث انه، في رأيه، لم يرسم من قبلها سوى مجموعة من «الدراسات» المتفرقة. ولعل الرسام يبدو محقاً، على الأقل في ما يتعلق بتكوين المشهد المرسوم نفسه، وهو تكوين يبدو لنا اليوم سينمائياً، لم يكن فان غوغ قد دنا منه من قبل، ولا هو سيحاول ان يعود اليه من بعد. والجدير ذكره هنا هو أن فان غوغ كان في قريته نيونن، وخلال العامين 1884-1885 قد رسم عشرات البورتريهات لفلاحين محليين، نساء ورجالاً واطفالاً. ثم حين انكب على رسم اللوحة (البالغ ارتفاعها 72 سم، في مقابل 93 سم عرضاً)، استدعى أفراد عائلة غروت، الذين كان رسمهم واحداً واحداً، كي يجمعهم هنا في لوحة كبيرة واحدة. غير ان اللوحة النهائية التي انجزها في الغرفة الصغيرة، انما رسمها في نهاية الأمر من الذاكرة، بعد تجارب أولية عدة أرسل اثنتين منها الى أخيه ثيو. > وموضوع اللوحة هو، بالطبع، مجموعة من أفراد أسرة فلاحية متحلقون حول صحن واحد من الطعام يتقاسمونه بإذعان. صحيح أن فان غوغ، من ناحية الشكل واللون ولعبة الظل والضوء، قد سار على منوال الأساتذة الهولنديين الكبار، بدءاً من رمبراندت، غير انه، من ناحية المضمون، عرف تماماً كيف يفلت من المثالية التي كانت تطبع أعمال هؤلاء: مقابل المثالية التي كانت تكاد، في نظرتها الى حياة الفلاحين، تشبه عبارة أغنية محمد عبدالوهاب الشهيرة «محلاها عيشة الفلاح»، أغرق فان غوغ شخصيات لوحته في واقعية تعبيرية، معلناً انه في سبيل الوصول الى الواقعية والتعبيرية معاً، لا يخيفه ابداً ان يجد مشاهدو اللوحة، قدراً كبيراً من القبح يسيطر عليها، فما يصوّره هو الحقيقة التي لم يأتِ بها من عنده بل من الواقع المزري لحياة أناس يعرفهم ويعيش بينهم. > كان الهدف الأساس لفان غوغ من لوحته هذه، أن يعبر فيها عن «العمل اليدوي الذي يقوم به هؤلاء الناس والغذاء الذي كسبوه بعرق جبينهم» وفق ما قال في احدى رسائله يوماً. أما ما لم يقله، ولاحظه النقاد والمؤرخون، فهو ان ثمة مناخاً من القداسة العامة المدهشة يهيمن على المشهد معطياً اياه سمات «العشاء الأخير» للسيد المسيح، من دون ان يكون هذا مقصوداً لذاته. ولعل من أهم ما يسيطر على هذا المشهد، الصمت، حيث ان الشخصيات الخمس المرسومة، وعلى رغم حميميتها، تبدو غير قادرة على التواصل في ما بينها. بل يكاد يبدو لنا ان التواصل مع طبق الطعام نفسه غير موجود، بحيث تبدو روتينية العلاقة مع هذا الطعام القليل والبسيط، كأنها من سمات الحياة اليومية التي لم تعد قابلة للبحث او للنقاش. > أما بالنسبة الى التلوين، فيبدو هنا أن فان غوغ انما كان يحاول ان يقتبس من الفرنسي ميّيه الذي كان يعرف عمله جيداً، بل سبق له ان رسم «دراسات» عديدة مستوحاة من ذلك العمل، في مجال طَبَع اللوحة كلها بما في ذلك وجود الشخصيات وملابسها و «ديكور» الغرفة، بلون تربة الأرض الزراعية الحقيقية. ويقيناً ان الفنان حقق نجاحاً كبيراً في محاولته هذه، حيث ان طغيان هذا اللون هو الذي يجابه مشاهد اللوحة أول ما يجابهه... > ويبقى ان نذكر هنا اخيراً ان فنسان فان غوغ (1853-1890)، وعلى رغم كل الانتقادات التي وجهت الى لوحته هذه، وعلى رغم مئات اللوحات التي رسمها لاحقاً وحققت له سمعته العالمية، ظل مؤمناً بأن «آكلو البطاطا» هي عمله الأكبر، هو الذي قال عنها «اذا لم تكن لي قيمة فنية حقيقية مرتبطة بهذه اللوحة، لن تكون لي اية قيمة فنية حقيقية بقية حياتي، مهما حققت من أعمال».

مشاركة :