يشهد التاريخ للمرأة الإيرانية بمسار نضالي مميز من أجل تثبيت حقوقها المدنية والتمتع بحريتها أسوة بغيرها من نساء العالم عامة، أو على الأقل بنساء عدد من المجتمعات الإسلامية الأخرى، وبإمكان كل مهتم بالشأن الإيراني أن يوثق تصاعد نسق نضالات المرأة الإيرانية خاصة بعد سقوط الشاه وتبوّء الملالي السلطة بفكرهم الرجعي وبنظامهم السياسي المعادي بطبعه للحرية والتفكير والكرامة البشرية، وله أن يتوقف وقفة تأمل مع انطلاق حركة حريتي السريّة أو حركة ماسيه ألينجاد ضد الحجاب الإجباري منذ خمس سنوات عند رمزية الحجاب في نضالات المرأة الإيرانية الذي أصبح رمزا لدولة الملالي ومنظومة قيمها الرجعية. في أيامنا هذه تفجرت براكين غضب المرأة الإيرانية بعد ما جرى إثر القبض على مهسا أميني القادمة من مدينة سقز بكردستان الإيرانية في طهران بسبب خصلة شعر لاحت من حجابها المفروض عليها؛ إذ لقيت المسكينة حتفها في طهران بعد يومين من اعتقالها. خبر قتلها هذا شاع وافتضح أمر قاتليها، وجاء في الأخبار أن قتلها تم على أيدي شرطة «الأخلاق»، ولم يكن هذا الخبر إلا الشرارة التي أوقدت فتيل الغضب؛ لتعم المظاهرات مدن إيران وقراها معبرة عن رفضها الجريمة النكراء المرتكبة، وها هي ذي تستمر وتتخذ أشكالا تصعيدية عديدة وتستقطب مزيدا من قطاعات الشعب الإيراني التي تتحد في مواجهة حكم الملالي الدكتاتوري. الأوضاع الحالية في إيران تدفعنا إلى طرح سؤال مفاده الآتي:هل اكتفى النظام الإيراني بقتل مهسا أميني؟ الإجابة قطعا هي «لا»، فالوقائع اليومية التي يكابد الإيرانيون مشهدياتها تشير إلى أن هذا النظام الذي يتعارض وجوده مع النواميس التي استقرت عليها المجتمعات المدنية أباح لقوات الحرس الثوري المدججة بالسلاح أن تُطلق رصاص غلها وحقدها على كل صاحب صوت حر على متظاهرين ذنبهم الأوحد أن طالبوا بحقهم في عيش كريم وشيء من الحرية، وأطلق يد عصابات الباسيج لتواصل دور شرطتها «الأخلاقي» في وقف الاحتجاجات ومضاعفة أعداد شهداء المطالبة بالحرية إلى أكثر من 180 قتيلا حتى كتابة هذه السطور من بينهم كثير من النساء اللاتي أعدن بموتهن سردية وأد المرأة التي ترتبط في مخيالنا الجمعي بالجاهلية وبأبشع أشكال الذكورية المقيتة. من غريب ما سوّق له النظام الإيراني في قتل مهسا، أن سبب القبض الذي أفضى في أقل من يومين إلى القتل هو ارتكاب الشابة مهسا ذات الـ22 ربيعا «جريمة نكراء» تمثلت في عدم ارتداء الحجاب بطريقة سليمة! ما يعني أنها كانت ترتدي حجابا ولكن الارتداء لم يكن مناسبا لشرطة «الأخلاق»، فما كان من هذه الشرطة إلا أن قررت قتلها «مضطرة»، لتظهر أن القتل من صميم الأخلاق التي تقف الشرطة الإيرانية حارسة على أبوابها. أي امتهان لحياة البشر وكرامتهم هذا؟! وإلى أي حد وصل مستوى تدني العلاقة بين السلطة الإيرانية القائمة ومواطنيها؟ ثم أمن العدل أو المنطق الذي يعزز في قلوب الإيرانيين الإيمان أن يُبلَّغوا في استبلاه صريح للذكاء البشري بأن سبب القتل هو ارتداء الحجاب بشكل غير سليم! هل تعدم شرطة «الأخلاق» الكلمة الطيبة لطلب تعديل وضع الحجاب؟! أسئلة يكفي طرحها لبيان حدود العبث التي بلغتها حقوق الإنسان في دولة ثيوقراطية تفقد يوما إثر آخر مقومات وجودها. في ضوء هذا الفعل الإجرامي الذي مارسته شرطة «الأخلاق» اشتعل الغضب في مدن إيران والتأييد في كثير من عواصم الدول الغربية إلا في مجتمعاتنا فقد اكتفينا بالمراقبة وبأضعف الإيمان لعنا لذاك اليوم الذي وصل فيه الملالي إلى حكم إيران. فمن يُهَدّأ هذا الغضب ويوقف امتداداته في كل اتجاه من اتجاهات الدولة الإيرانية المتعددة الطوائف والمذاهب؟ إجابة هذا السؤال معروفة وتتمثل في تغيير النظام الثيوقراطي الطائفي برمته، ولهذا فإن أول من طاله هذا الغضب العارم الذي يجتاح إيران هو رأس هذا النظام علي خامنئي. أمام هذا التطور الواعد بإضعاف النظام وسن سكين المعارضة لتقطيع أوصاله إربا إربا ثمة سؤال يطرح نفسه ومفاده: هل تتحول أحدث موجة للاحتجاجات هذه إلى ثورة تكنس نظام الملالي وترمي به إلى مزبلة التاريخ أسوة بنظام الشاه ليقام بدلا منه نظام مدني أكثر عدلا وإيمانا بالإنسان وحقوقه؟ التكهن بالإجابة عن مثل هذا السؤال صعب؛ وذلك لحدوث كثير من الاحتجاجات قبل هذا في إيران من دون أن تفت في عضد نظام الملالي. صحيح أن سؤال ثورة إيرانية على حكم الملالي سؤال تلهج به الألسن التواقة إلى سقوط نظام الملالي وإقامة نظام مدني، ولكن هناك سؤال يحتاج منا إلى أن نبرزه أكثر لعلنا نساهم في تبديد غشاوة أعمت بعضنا عن إبصار الحقيقة، والسؤال هو: أين الدول التي تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان؟ أين أمريكا زعيمة العالم «الحر»؟ أين الدولة التي رفعت شعار الدفاع عن الشعوب مما بإمكانها أن تفعله لوقف شلال الدم المهدور في إيران والذي لم يتوقف منذ سنوات هي عمر النظام؟ لن نجد إجابة لهذه الأسئلة لأن دول الغرب أدمنت ومنذ زمن بعيد النفاق والسوقية الحقوقية والكيل بأكثر من مكيال عند مقاربتها القضايا والمشاكل التي تتعرض لها الشعوب. ولعل المثال الحي الذي نعيشه اليوم عبر مشاهد تكالب دول الغرب للضغط على روسيا عندما أرادت الدفاع عن مصالحها ومواجهة أمريكا ودول حلف الناتو خير دليل على أن ما يُسمى بالعالم الديمقراطي الحر كذبة إعلامية كبرى.
مشاركة :