مسؤولية جسيمة تلك التي تقع على عاتق المفكرين العرب هذه الأيام. فالعالم يشهد تحولات معقدة، يلزم تفكيكها وتحليلها بأعلى درجة من الصفاء الذهني والاستقامة الفكرية. فنحن لا نملك ترف التعليق بمنطق «مع أو ضد»، إذ الأهم، في تقديري، هو البحث عن مغزى تلك التحولات، وما تعنيه بالنسبة لنا. مناسبة هذه المقدمة، هو ما لمسته في بعض وسائل إعلامنا العربي من بعض الخفة في التعامل مع وصول جيورجيا ميلوني للحكم في إيطاليا. فأغلب التعليقات اقتصرت على الترحيب بميلوني، أو الجدل حول ما إذا كانت تؤمن فعلاً بالفاشية. والحقيقة أننا، نحن العرب، لسنا مطالبين أصلاً بأن نكون مع أو ضد وصول مسؤول غربي للحكم، ناهيك عن أن تلك ليست مسؤولية المراقبين والمفكرين تحديداً. فالمهم هو تحليل مغزى الأحداث، وما تمثله من مؤشرات، يلزم الانتباه إليها. ويستحيل فهم ظاهرة صعود جيورجيا ميلوني، بمعزل عما يدور في بلادها، بل وبمعزل عن حال أوروبا عموماً. فليس خافياً أن عدم الاستقرار السياسي في إيطاليا، مسؤول جزئياً عن صعودها المدوي. ففي أربعة أعوام فقط، شهدت إيطاليا تشكيل ثلاث حكومات، وهو ما يعني ارتباكاً في السياسات، وأزمة اقتصادية تفاقمت مع جائحة «كورونا»، ثم الحرب في أوكرانيا. وتفاقم الأزمة الاقتصادية، أدى لغضب شعبي واسع موجه للسياسيين في روما، بعد فضائح بالجملة أسقطت حكومة جيسيب كونت، وتعيين الرئيس الإيطالي لماريو دراجي، الذي ما لبثت حكومته أن انهارت، فاستقال الرجل في يوليو الماضي، وتمت الدعوة لانتخابات جديدة، هي التي أتت بجورجيا ميلوني للصدارة. غير أن تحليل أسباب وصول ميلوني للسلطة، لا يمكن فهمه دون النظر لمتغير غاية في الأهمية، هو قضية الهجرة. وهنا نقطة التماس الحقيقية مع الأوضاع في أوروبا عموماً. فليس خافياً أن قوى العنصرية لم تختفِ يوماً في أوروبا، فهي انزوت، ولكنها كانت تعمل تحت السطح، تنتظر اللحظة المناسبة للانطلاق على الساحة. وقضية الهجرة خلقت واقعاً سمح بصعود تلك القوى، ليس فقط في إيطاليا، وإنما في فرنسا والسويد وبولندا والمجر وهولندا. فهي قضية سمحت لتلك القوى بتشكيل خطاب سياسي، يبدو عقلانياً، ولا يستخدم المفردات العنصرية التقليدية. فهو يقول ببساطة، إن كل ما في الأمر، أننا «قوميون»، نؤمن بوطننا، ونريد أن نعيد له «القانون والنظام العام»، ونسعى للحفاظ على «التقاليد». وهو خطاب يسمح باجتذاب قطاعات واسعة، ليست بالضرورة ذات خلفية عنصرية. لكن القراءة المتأنية لذلك الخطاب، تكشف مغزاه الحقيقي. ومسؤوليتنا هي تفكيكه قبل اتخاذ موقف منه. «فالقومية» التي يدافع عنها هؤلاء، لا يقصدون بها المعنى المعروف عندنا، أي الحفاظ على الوطن بكل مكوناته. فالوطن عندهم له تعريف فريد، هو «الوطن الأبيض». فالبيض وحدهم هم «الوطن»، الذي ينبغي حمايته. وبالتالي، فإن أولئك المهاجرين «الملونين»، الذين يأتون من آسيا وأفريقيا، ويؤمنون بديانات مختلفة، يمثلون «غزواً» يهدد ذلك الوطن، ويسعى لمحو هويته، التي هي عندهم «بيضاء مسيحية». أما تعبير «القانون والنظام العام»، فهو لغة شفرية، تنطوي على اتهام المهاجرين بالجملة، بالمسؤولية عن «كل الجرائم» التي ترتكب في الوطن «الأبيض». ففي السويد مثلاً، التي وصل فيها حزب أقصى اليمين للمرتبة الثانية بالانتخابات البرلمانية الأخيرة، يرى هذا الحزب، أن ضواحي المدن الكبرى التي يقطنها المهاجرون، باتت «أوكاراً للجريمة». وهو خطاب مبني على الانتقائية الشديدة في تناول الإحصاءات الرسمية، ويغفل عمداً التجاهل الرسمي للخدمات العامة في تلك المناطق ذاتها، ناهيك عن أسباب الهجرة أصلاً، ومسؤولية أوروبا عنها، والتي هي موضوع كبير، يحتاج لنقاش مطول. أما حديث تلك القوى عن «التقاليد»، فيستلزم بعض التأني. فلا يظنن أحد أن المقصود بها هو المعنى نفسه الذي نقصده في مجتمعاتنا المحافظة. فالتقاليد التي يقصدونها، هي تقاليد «مجتمع البيض» فقط، والتي تعني إقصاء كل التقاليد التي يأتي بها المهاجرون، بما فيها تقاليدهم الأسرية والدينية والثقافية. فحماية «التقاليد» عند ذلك التيار، معناها الحفاظ بالدرجة الأولى على المكانة الخاصة للبيض، ودونية من عداهم، وإقصاء تقاليدهم. تلك هي أفكار تيار أقصى اليمين الأوروبي. وإزاء صعوده، لسنا مطالبين بأن نكون معه أو ضده، إلا بعد تحليل أفكاره. * كاتبة مصرية طباعة Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :