في بدايات 2015 وقبل رحيله بأشهر إتفقنا أنا والأديب والفنان صبري يوسف صاحب مجلة السلام الدولية السنوية، ويرأس تحريرها أيضاً أن نقوم بتكريم عمر حمدي / مالفا ( 1951 - 2015 ) بطريقتنا الخاصة بصفتي مستشاراً فنياً للمجلة المذكورة، وبعد مشاورات مثمرة خرجنا برأي مشترك أن نقوم بتحرير ملف عنه على أن ينشر هذا الملف على صفحات العدد الثالث من المجلة المذكورة دفعة واحدة مهما كان طوله، وبدأنا بالعمل وبنشاط كبير علنا نستطيع أن نفرح ولو بصيص فرح فناننا الذي لا يموت، نفرحه ونفرح به وهو مايزال بيننا، وأن نرسل له مساجاً بأن له مساحة كبيرة في فضاءاتنا، وله من الحب ما يغرق قلوبنا به، فما قدمه لنا هي كنوز لا تقدر بثمن، وكان سفيرنا في الجهات العشرة بأننا قادرون على إنجاب الكبار رغم المعاناة التي نعيشها، ورغم القهر الجاثم على صدورنا، وخرجنا بملف نشر كاملاً في العدد المذكور شارك فيه ما يقارب أربعون قلماً بين ناقد وشاعر وفنان وقاص وصديق، وتم تحويله فيما بعد إلى كتاب يتجاوز ( 300 ) صفحة ينتظر من يقدم له العون ليرى النور، خرجنا بهذا الكتاب الملف ولكن كان سفيرنا قد أهدى روحه لباريه، لم يعد يطيق الأرض، باتت ضيقة عليه، كان مالفا ذاكرتنا التشكيلية الأغنى يضرب مع الرب صفقة الرحيل إليه، الرحيل الذي يذيبه في سبيل الوصول إلى المطلوب، في سبيل الوصول إلى الرب ليخبره بأن أبناء آدم لم يعد أبنائه، وبأن الأرض باتت خراباً، وهذا الذي جناه الذين خلقهم على شاكلته، ونفخ فيهم من روحه، أسوق هذا الكلام ونحن على أبواب الذكرى السابعة على رحيله دون أن نجد شيئاً من الذي حلمنا به، دون أن نلامس أملاً صغيراً من الآمال التي مشينا إليها، ودون أن نرى من أصحاب الشأن من يخلده معنا ولنا، ويحتفي به بمتحف أو شارع أو مؤسسة فنية تحمل إسمه، حقيقة لا نعرف قيمة كنوزنا حتى لو دفع بها الآخرون أطناناً من الدولارات، ماذا لو لم يكن مالفا كردياً، ماذا لو لم يكن مالفا سورياً، ماذا لو كان إبن دولة غربية، دون تردد كان سيقف إلى جانب الخالدين لديهم، ولدفن في مقابر عظمائهم، ولحولوا بيته ومقتنياته وأعماله الباقية على الأقل متحفاً خاصاً به يئمه عشاقه وعشاق الفن في المعمورة قاطبة، متحفاً يدر كنوزاً على المكان المقام فيه، فتتحول إلى مزار فني تشكيلي، يحمل قيمته من أعمال صاحبه، ولأصبح الفنان الذي سيسرد الآخرون يومياتهم معه وعنه، أو ينشرون صورهم الخاصة معه وهو يمسد أصابعه على رؤوسهم فيتباهون بذلك، ولكن مع الأسف كله، ظلم مالفا حين ولد، وحين درس، وظلم حين أدى خدمته الإلزامية التي تجاوزت السبع سنوات بأشهر ثلاث، وظلم حين اغترب، وظلم من اسمه ومن أهله وأصدقائه وزوجته، وظلم من الرب ذاته، لكن ظلمه من المقربين كان أكثر وأعمق حين جحدوا بحقه وبدؤوا بتأليف معزوفات لا ترقى إلى مستواه ومستوى النقاش حوله، فكل جعيرهم لا تساوي لمسة واحدة من لمساته على أحد أعماله، نعم أسوق هذا الكلام ولا أحب أن يمضي ذكراه دون إستحضارها، وهو الغيم الذي فرش تلباداته في سموات الكثيرين من الفنانين السوريين والكورد منهم، دون أن يستطيعوا أن يمنعوا ذلك الغيم من الهطول، الغيم الذي بللهم كثيراً وهم غير قادرين على التخلص من ذلك، فأثره باق وعباءته تخبىء عوراتهم ليوم الدين. إذا كان التاريخ يعيد نفسه كما يقولون إلا أن التجربة الفنية الحقة لا تعيد نفسها أبداً، بل تأخذ لونها وخطها وطريقها وعطرها من المكان، وتترك أثرها وحيزها فيه، وتفرش حضورها، وتكتفي بآفاقها الواسعة المفتوحة على السموات، وفي هذا السياق تجربة عمر حمدي / مالفا لا تعاد، تجربة بقدر ما هي طامحة إلى ضبطها بضوابط معرفية، وتحيط بها هالة صارخة من مفاهيم القبول والإختلاف، بقدر ما هي تجربة شخصية فردانية، جامعة مانعة كما يقال تقوم في المقام الأول على الذوق الذي ينظر إليه من منظور جمالي، تقوم على الشعور بوجود إعتبارات أساسية لجوهرها، والرؤى بخبرات يستعان بها حين موسقتها بإيقاعات غير منتظمة، ومتفاوتة الشدة، الأمر الذي يضم في حضن منتجه كل الموجودات، وفي إمكان الإتصال فيما بينها إتصالاً متفاوتاً في المراتب وصولاً إلى مرتبة الإتحاد التام بحيث لا يكون إلا هو، ومن هنا كانت تجربته سلماً صاعداً نهايته الذات وذروته الإتحاد وكأنه يرسم صورة صوفية هي الأقرب إلى ملامساتها للحقائق دون النزوع إلا إلى ما يبلور مفاهيمه، وبأن تجربته ما هي إلا مدينته الفاضلة التي بناها كجزء من بنائه الأساسي العام، وحماها بذاته كواجب إنساني، وكواجب عرفاني بأن الفن يبعث في النفس ذات العواطف التي ينفعل بها الآلهة، محققاً حالة جذب وإتحاد، حينها سنرنو بأبصارنا بعيداً في تجلياتها علنا نقبض على تلك الحركات الإهتزازية التي تلد مع كل ممارسة راقصة أو مع تلك الطقوس الخاصة التي بعيشها الفنان ذاته. لا أبالغ إذا قلت بأنه ما أن يحل ذكرى رحيل عمر حمدي / مالفا حتى يزداد شعوري بأننا مدينون له، فله في ذمتنا الكثير، لا بد أن نرد له ما تيسر لنا، وهذا الذي نكتبه عنه ونذكره بيننا ليست إلا قطرات قليلة من تلك الديون، فهو يستحق أن نرد له الكثير، على الأقل في هكذا مناسبة أن نحتفي به بنشاط فني كبير مستوحاة من عوالمه، أو بتظاهرة فنية تحمل اسمه ويشارك فيها العشرات ممن ينحتون في هذا الميدان ويحملونه، ولكن الجحود الذي نعيشه يقتل الجميل فينا، والغيرة من الناجح فينا لا بد أن نرميه بمليون حجرة ولو كان ميتاً، فإذا كان نجاح الميت يلاحقنا إلى الآن حتى بعد رحيله، فما الأمل فينا في بناء هذه الأرض وتجميلها وهندستها من جديد، بالشكل الذي نريد وبالذي يليق بها، هي دعوة الأرقاء منا بتكريم مبدعينا الحقيقيين، الموتى منهم والأحياء، فهم كنوزنا على هذه الأرض، ورسلنا فيها، فلتكن أرواحنا ومواقفنا أسمى وأقوى مما نعتقده، وعلينا أن نعيد السؤال لأنفسنا قبل أن نسأله للآخرين. ماذا لو لم يكن عمر حمدي/مالفا كردياً ... ماذا لو لم يكن سورياً، أتمنى أن نكون أوفياء لذواتنا ولقاماتنا ولكنوزنا، وأن تكون إجاباتنا تليق بدواخلنا وتاريخنا ومشاعرنا، وأن يكون كل ذلك ونحن نقف أمام المرآة لتكون إجاباتنا، إجابات حق، إجابات تشير إلينا ونحن نقف أمام أنفسنا، أمام الميزان، وقد تكون لنا وقفة طويلة أمام هذا التساؤل ونجيب عليه بشكل موسع بمادة قادمة، ولكم الحق في مشاركتنا .
مشاركة :