سرق الإعلان عن نجاح الوساطة الاميركية في ترسيم الحدود البحريّة الجنوبيّة بين المسؤولين اللبنانيين والاسرائيليين الإهتمام بمواصلة الطبقة اللبنانيّة الحاكمة تمزيق ملف انفجار مرفأ بيروت، حتى بدا أنّ هاجس التفاهم مع العدو لا يُلهيها عن هاجس الاستكبار على شعبها، و"شط الريق" للثروة التي يمكن أن ينتجها الغاز "المحتمل" أغلى بكثير من الدماء التي أهدرتها أفعالها "غير المسؤولة" في ذاك الرابع من آب/ اغسطس ٢٠٢٠. وفيما كانت العيون شاخصة على الجنوب اللبناني، كان رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبّود، وسط حملة شرسة تستهدفه، يحبط محاولة جديدة لنسف ملف انفجار المرفأ عمومًا و"قطع يد" المحقق العدلي طارق البيطار التي تجرّأت وامتدت الى سياسيين وعسكريين وأمنيين واداريين "محميّين"، خصوصًا. ولو قدّر لخطة الطبقة السياسية التي وجدت ضالتها في عدد من أعضاء مجلس القضاء الأعلى الذين سبق لها أن عيّنتهم ، بالاستناد الى كفاءاتهم الاستثنائية في ممارسة طقوس الطاعة، لكان ملف التحقيق في انفجار المرفأ قد انتقل من حالة "التجميد" الى حالة الوفاة، وانتهت معه الآمال المعقودة على الحدّ الأدنى من العدالة وما تبقى من رجالاتها، في بلد يُكثر فيه سيّئو الفعل انتاج طيّبات الكلام، ومهدّمو الوطن اطلاق روائع الشعارات. وإليكم القصّة: يوم نجحت المراجعات القانونيّة المدعومة سياسيًّا، في رفع يد المحقق العدلي السابق فادي صوّان عن ملف انفجار المرفأ، وسط صدمة شعبيّة لبنانيّة،استدعى رئيس مجلس القضاء الاعلى سهيل عبود القاضي طارق البيطار الذي جرى اقتراحه لخلافة صوّان، وطرح عليه، بهاجس عدم تحويل "تطيير" سلفه الى "تطيير" للعدالة، أسئلة عدة كان أبرزها السؤال الأخير. قال له عبّود:" أنا شخصيًّا، حسمت موقفي، فإذا كان ثمن حماية حقوق الضحايا في هذا الملف القتل، فأنا مستعدّ لذلك، وأنتَ؟ أجابه البيطار:" وأنا كذلك". بعد هذا اللقاء، استدعى عبّود مجلس القضاء الاعلى الذي وافق على اقتراح تعيين البيطار. وكانت مفاجأة الطبقة الحاكمة أنّ القليل الذي أثار غضبها على صوّان، تكاثر جدًّا على يد البيطار، فقرّرت التخلّص منه، هو الآخر. لكنّ الأسلوب الذي نجح في "تطيير" صوّان فشل في "تطيير" البيطار الذي حماه استنفار شعبي وقضائي غير مسبوق، برعاية القاضي عبّود نفسه. وهنا كان لا بدّ للمرجعية المتربّصة بالتحقيقات من الدخول على خطّ الترغيب والترهيب، فزار المسؤول في "حزب الله" وفيق صفا عبّود وطلب منه، بحسم وجدّية، "قبع" القاضي البيطار، لكنّ عبّود الذي لم ينس ما تضمّنه لقاؤه مع البيطار، قبيل تعيينه، رفض ذلك، وسط صدمة "ضيفه" الذي لم يعتد على أن تواجَه "تمنياته" بالرفض، وهو الممثّل الأعلى في الادارة اللبنانية ل"الحزب الحاكم". وما إن نطق عبّود ب"لائه"، حتى انطلقت حملة عنيفة، تخللها ايقاظ شبح الحرب الأهليّة في ما عرف ب"اشتباكات الطيّونة"، ضدّ رئيس مجلس القضاء الأعلى والمحقق العدلي معًا، واستفادت السلطة الحاكمة المتكاتفة والمتعاضدة، من صلاحياتها في توقيع المراسيم الخاصة بالتشكيلات والتعيينات القضائية، حتى تحدث فراغًا مدوّيًا في الهيئات التي إن لم تعمل تجمّدت التحقيقات وكُفّت يد البيطار عن الملف، حتى إشعار آخر. وهكذا اضطرّ البيطار أن يقف مكتوف اليدين، بعدما كان قد أوصل تحقيقاته الى مستواها الأدق، اذ تفتّحت أمامه مسارات في غاية الأهميّة من شأنها أن تسقط جميع من شارك وتدخّل في انفجار مرفأ بيروت التدميري، وجلّهم ممّن يصنّفون أنفسهم "كبار القوم" في لبنان. ولكنّ الطبقة الحاكمة لم تكتفِ بهذا "الإنجاز " بل قرّرت الذهاب الى "الإنجاز العظيم": نسف الملف من داخله. وكانت المفارقة أنّ هذا الهدف الذي يهدر حقوق الضحايا - وما أكثرهم- ويسفك دماء العدالة- وما أغلاها- لم يجد وسيلة له سوى المشاعر الانسانيّة. وبالفعل، فقد أنشأ تجميد التحقيقات إشكاليّة مزعجة للغاية، فهناك اداريون وأمنيون موقوفون في الملف، ولم تعد لديهم مرجعيّة تبت في الطلبات التي يتقدّمون بها، دفاعًا عن أنفسهم وسعيًا الى استعادة حريّتهم. وبدل أن تتراجع الطبقة الحاكمة عن تجميد مراسيم التشكيلات والتعيينات القضائية، من أجل فكّ أسر البيطار، ابتدعت اجتهادًا "غريبًا عجيبًا" يقوم على تعيين محقّق عدلي رديف للبيطار، بحيث يتحرك هذا المحقق حيث يُمنع على البيطار التحرّك. ونجحت الضغوط والشعارات المعسولة، في انتزاع موافقة مبدئية من مجلس القضاء الأعلى على فكرة تعيين قاض رديف، لكنّ رئيس المجلس سهيل عبّود اشترط للذهاب قدمًا في ترجمة هذه الموافقة أن يكون القاضي الرديف "حياديًا"، أي لا تربطه أيّ صلة بأيّ طرف سياسي، وأن يكون ملتزمًا بحدود مهمته الاستثنائية التي فرضتها الظروف الاستثنائية، أيّ البت فقط في طلبات اخلاء السبيل المقدّمة من الموقوفين في الملف، بما لا يتعارض مع المنهجية التي يعتمدها القاضي البيطار من جهة وبما لا يمنع لاحقًا من ملء الشغور في الهيئات القضائية، الأمر الذي من شأنه أن يحيي التحقيقات بأسرع وقت، من جهة أخرى. لكنّ الصدمة التي تلقاها عبّود كانت أكبر من قدرته على تحمّلها إذ وجد نفسه فجأة أمام مفترق طرق: إمّا الوفاء بتعهداته التي تبادلها والبيطار التي وصلت الى حدود "تقبّل القتل"، أو مشاركته في نسف التحقيقات من أساسها. وقد تجلّت هذه المفاجأة بالشخصية القضائية التي اقترحها وزير العدل هنري خوري لشغل منصب القاضي الرديف، وبالتحضيرات التي أنجزتها الطبقة الحاكمة بالتدخّل لدى قضاة كانت قد عيّنتهم في عضوية مجلس القضاء الأعلى، من أجل تمرير تعيين هذه القاضية الرديفة، مهما كانت مبرّرات رئيسهم الرافض صائبة. وأخذ عبّود خيار "الوفاء لتعهّداته" التي تبادلها والبيطار. رفض، بداية أن يدعو مجلس القضاء الاعلى الى اجتماع، ولكنّ وزير العدل الذي جاء به "التيّار الوطني الحر" الى هذا المنصب، تجاوزه واستعمل مادة في نظام القضاء العدلي تتيح له دعوة مجلس القضاء الاعلى الى الانعقاد، ليفرض على زميله السابق وصديق الشباب سهيل عبّود ارادته. انتفض عبّود واصدر بيانًا رفع عن دعوة خوري اللباس القانوني وفضح أسبابها السياسية وأعلن مقاطعته الجلسة. لم يكن هذا القرار "غسلًا ليدي" عبّود ممّا سوف يتم تقريره، لأنّه كان يعرف أنّ نائبه المدعي العام التمييزي غسّان عويدات لن يستطيع المشاركة في جلسة تبحث في ملف المرفأ لأنّه سبق له أن تنحّى عنه لعلّة علاقة النسب مع الوزير السابق غازي زعيتر الصادرة بحقه مذكرة توقيف غيابية، وتاليًا لن يتوافر النصاب القانوني لمجلس القضاء الأعلى اذ سوف يكون حاضرًا خمسة قضاة فقط بينما النصاب يقتضي حضور ستة قضاة. وهكذا أحبط عبّود الخطّة التي تبيّتها الطبقة الحاكمة لملف انفجار مرفأ بيروت، اذ إنّ المعلومات المتقاطعة كانت تؤكد أنّ القاضي الرديف المقترح المحسوب على "التيّار الوطني الحر" لن يكتفي بالبت بملفات إخلاء السبيل المقدّمة من الموقوفين بل سوف يذهب إلى أبعد من ذلك، بسحب مذكرات التوقيف الصادرة بحق سياسيين وأمنيين وعسكريين واداريين محسوبين على "الحلفاء"، بداعي مخالفتها للدستور. كانت هناك قناعة بأنّ القاضي الرديف بمجرّد تعيينه سوف يستنسخ أسلوب المدّعي العام الاستئنافي في جبل لبنان غادة عون التي لا تكترث لمقتضيات المنهجية القضائية بل لحاجيات "الحالة العونية". إنّ هذه الوقائع على أهميتها، لا تلغي أنّ العدالة التي ينشدها اللبنانيون في ملف انفجار المرفأ لا تزال معطّلة، والمسؤوليات الجرمية مشتّتة وحقوق الضحايا مهدورة. وعليه، من حق اللبنانيّين أن يسألوا، في ظل احتفالات النصر التي تقيمها الطبقة السياسية بانجاز الترسيم الغازي على يد الادارة الاميركية التي طالما وصفها "محور الممانعة" بالغاشمة، عن مصير الثروة المحتملة اذا ما بقيت البلاد بعهدة "جماعة" النيترات أمونيوم!
مشاركة :