على مدى العام الحالي 2022، أمكنني أن أشارك في ثلاثة منتديات كبرى، في مدن مختلفة، خصصت أعمالها ومناقشاتها لبحث أدوار العمل الإعلامي ومستقبله في المنطقة العربية والعالم، وقبل أن يغادرنا هذا العام ونغادره، ستكون منتديات أخرى قد عُقدت، وواصلت مناقشة ذلك الموضوع، الذي لا تنقصه الحيوية، ولا يتوقف عن طرح المُستجدات وإثارة الجدل. وبنظرة إجمالية على محتوى النقاش الدائر في تلك المنتديات، والذي لم يعدم طزاجة الطروحات وأهميتها في معظم الأحوال، ستبرز ملاحظة أساسية يمكن استخلاصها في هذا الصدد، وهي ملاحظة تشير إلى انصراف الجزء الأكبر من الاهتمام إلى عالم الوسائط «الجديدة» على حساب الوسائط «التقليدية» وأنماط العمل المؤسسية في قطاع الإعلام. يمثل ذلك التحول التدريجي وغير المفاجئ انعكاساً أميناً ربما لحالة التلقي السائدة في المجتمعات العربية والدولية، وهي حالة تواصل رفد القطاع الجديد بالزخم والأهمية، على صُعد التلقي والتفاعل والتأثير والعوائد الإعلانية. ولأن منظمة «اليونيسكو» هي إحدى المنظمات الأممية المعنية وذات الباع في مقاربة قطاع الإعلام العالمي، فقد وعت هذا التحول التدريجي مبكراً، ورصدت آثاره المفترضة؛ وهو ما سيتضح في تقرير أصدرته في شهر مارس (آذار) الماضي، اختارت له هذا العنوان المُهم والخطير في آن: «انهيار نموذج أداء عمل وسائل الإعلام وتقويض حقنا الأساسي في الحصول على المعلومات». تربط «اليونيسكو» في تقريرها المهم بين الضغوط التي تتعرض لها وسائل الإعلام المؤسسية في أنماط أدائها، وقدراتها التشغيلية، والعوائد التي تحققها، والأطر القانونية التي تنظم عملها، من جانب، وحق الجمهور في الحصول على معلومات دقيقة تساعده في فهم التطورات المحيطة به، واتخاذ القرارات الأنسب، من جانب آخر. ومن جانبي، أجد أن هذا الربط منطقي وضروري، خصوصاً بعدما أدى تراجع الاهتمام بعمل وسائل الإعلام المؤسسية، والاستسلام لنزعات الوسائط الجديدة المبنية على الرواج والتفاعل، والمنقطعة عن آليات الضبط والتنظيم، إلى شيوع الأخبار الكاذبة، وتضعضع الثقة في البنية المعلوماتية في مجتمعات عديدة في الدول المتقدمة والنامية على حد سواء. ولذلك، فقد حرصت «اليونيسكو» على أن يتضمن تقريرها توصيةً بضرورة دعم الجدوى الاقتصادية لوسائل الإعلام المستقلة، واحترام الاستقلالية المهنية للصحافيين، واقترحت في هذا الصدد إمكانية تقديم امتيازات ضريبية للمؤسسات الإعلامية المستقلة على نحو يتسم بالعدل والشفافية، ولا يخل باستقلالية التحرير. ليس هذا فقط، لكن «اليونيسكو» ذهبت في تقريرها، الذي يعالج الاتجاهات العالمية في حرية التعبير وتنمية وسائل الإعلام، في الفترة من 2016 إلى 2021، إلى الحديث عن «خطر وسائل التواصل الاجتماعي»، و«التهديد الوجودي» الذي تفرضه بزوال وسائل الإعلام المهنية، في ظل استئثارها بالقدر الأكبر من التركيز والعوائد والاهتمام باطّراد. لا يُعد الحديث عن «خطر» تلك الوسائل جديداً، ولا تمثل الإشارة إلى أنها تطرح «تهديداً وجودياً» على عالم الإعلام المؤسسي مبالغةً؛ لأن الوقائع والأرقام تشرحان هذه المخاطر وتسوّغان ذلك التهديد؛ إذ لا يمر يوم من دون أن نسمع عن أزمات جديدة تضرب قطاع الإعلام المؤسسي في مناطق مختلفة من العالم. كما أن التحذير من انهيار نموذج الأعمال الذي تعتمده الوسائط المؤسسية يجب أن يؤخذ على محمل الجد، خصوصاً في ظل توجه الجانب الأكبر من العائدات الإعلانية إلى القطاع الجديد، وتوجه الحكومات في دول عديدة إلى وقف دعمها لقطاع الإعلام المؤسسي، والذي أظهرت التطورات أنه أكثر قابلية في الوقت ذاته لتلقي الضغوط والتأثر بالممارسات التقييدية. سيحدث هذا في تونس التي تظاهر صحافيون بها، يوم الخميس الماضي، ضد ما عدّوه «سياسة الحكومة لتصفية وسائل الإعلام»، بموازاة الأنباء عن إغلاقات وتضرر أعمال وسائل إعلام مؤسسية عمومية وخاصة. وقد حدث أيضاً في بريطانيا، حيث اضطرت «بي بي سي» إلى الإعلان عن إيقاف خدمتها الإذاعية الناطقة باللغة العربية، ضمن عدد آخر من الخدمات الإذاعية الموجهة لمناطق أخرى بلغات مختلفة، في نهاية شهر سبتمبر (أيلول) الفائت، في وقت تعاني فيه من ضغوط حكومية لضبط مواردها وتقليص موازنتها. وفي فرنسا، شهدت الانتخابات الرئاسية الأخيرة ما يشبه المزايدة بين المرشحين المتنافسين على تقليص الدعم الحكومي وإلغاء الضرائب المخصصة لتمويل وسائل الإعلام العامة. وفي مصر، تعاني وسائل الإعلام المملوكة للدولة من صعوبات تمويلية، ويتأثر أداؤها بنقص الموارد، الأمر الذي أدى إلى غياب أسماء براقة وعريقة عن المشهد الإعلامي، بينما تعاني المؤسسات الإعلامية الخاصة من تراجع الموارد. يعاني قطاع الإعلام المؤسسي حزمةً من الضغوط التي قد تُخرجه من المشهد أو تُفقده القدرة على التأثير، وهو أمر ستكون له عواقب وخيمة على مهنة الإعلام والحالة المعلوماتية العالمية.
مشاركة :