على الرغم من موسوعيته وغزارة منتجه الثقافي تأليفاً وترجمة ورسماً، فإن اسم الروائي والكاتب الفلسطيني المولد والأصل، العراقي الجنسية، جبرا إبراهيم جبرا 1919-1994، لم يعد يطرح كثيراً في الكتابات النقدية والبحثية، ويتراجع الاهتمام بصاحب البئر الأولى وشارع الأميرات وصيادون في شارع ضيق، وغيرها. الأمر الذي يتطلب جهداً مضاعفاً في استقراء منتج جبرا بما يُساهم في فهم المرحلة التاريخية التي عاش فيها بآليات ثقافية وإبداعية. في سبيل الفهم، للمرحلة التاريخية والمعروفة في الأدبيات العربية بمرحلة النكبة، نستنطق نصين سرديين لجبرا، وهما رواية صيادون في شارع ضيق، الذي كتبها أوائل الخمسينات بالإنجليزية ثم تُرجمت إلى العربية، وسيرته الذاتية شارع الأميرات والمسماة على اسم أحد أشهر الشوارع العراقية. ويتقاطع النصان في عاملين رئيسيين، الأول أن بغداد تمثل الفضاء السردي الأبرز لأحداث النصين، والمدينة محور مقالتنا هنا، والتي هاجر إليها جبرا عقب حرب 1948 ونشأة الكيان الإسرائيلي. والعامل الثاني: يتناول الكتابان المرحلة الزمنية نفسها، 1949-1951، سنتان فقط تحدثت عنهما هنا، وما أقل ما ذكرت. وبسبب أنواع من الضرورات، ما أكثر ما أغفلت وحذفت! وإلى ذلك بقيت أربعون سنة أخرى تطالبني بالحديث عنها، وما كانت هاتان السنتان إلا البداية الرائعة لها حسبما ذكر في سيرته الذاتية. وتمثل مرحلة أواخر الأربعينات وبداية الخمسينات من القرن العشرين، فترة نشاط حركات التحرر الوطني من الاستعمار، لذا تتحفظ الناقدة الفلسطينية أماني أبو رحمة على إطلاق أدب ما بعد الكولونيالية على كتابات جبرا نظراً لعدم تخلص العالم العربي وقتها من الاستعمار، كما لا تزال فلسطين مسقط رأس جبرا، لم تتحرر من الاحتلال حتى اليوم. مؤكدة، أبو رحمة، مسعى جبرا في تلك الفترة إلى دمج المعرفة الغربية في العربية بهدف ابتداع جماليات محلية تخدم موقفه السياسي من القضية الفلسطينية، ومن دور الفن الحديث في عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية. كذلك سعى إلى ما يمكن أن نطلق عليه (جماليات سياسية) من خلال توظيف تراث المنطقة وربطه بالحداثة الغربية من أجل تجسير الهوة وطي الزمن للحاق بركب الحضارة الغربية، حدّ رؤية أبو رحمة. ومثلما أسهمت دراسة جبرا في بريطانيا وسفره إلى الولايات المتحدة مبكراً، في تشكيل الجماليات السياسية الخاص به ورؤيته الفنية، أسهمت بغداد أيضاً في تكوين النسق العام لفكر جبرا، وبقوله عن بغداد في بداية الخمسينات، التي شهدت انفتاحي العريض على بغداد أو انفتاح بغداد عليّ بشكل لم أكن أتوقعه أو أحلم به، وجعلني ذلك في نشاط دائم موزع بين مهام التدريس ومتعة اللقاءات، بالإضافة إلى الكتابة والمحاضرات العامة والترجمة. لكن ثمة صوراً متناقضة لبغداد في كتابات إبراهيم جبرا، الأمر الذي نرده إلى الظروف التي هاجر وقتها الكاتب الفلسطيني إلى العراق، حيث كانت هجرته اضطراراً ونتيجة ضياع الوطن الأصلي، فتشكلت بغداد بوصفها منفى وغربة، آمل جبرا كما تمنت شخوص رواياته أن تكون المدينة ملاذًا بديلًا، وتعويضاً عما فقد! وفي نص صيادون في شارع ضيق يحاول جميل فران المهاجر الفلسطيني أن يتعامل مع بغداد انطلاقاً من تخيلها مكاناً للفرح هذا مكان للفرح بعد تلك الأشهر من القهر في الوطن. ويلقي جبرا وجميل الماضي كي يتوارى قليلاً، في محاولة لفتح صفحة جديدة في الحياة، ومع المصاعب التي تلاقي المغتربين أول طريقهم، فإن جميل فران اجتهد لتخطيها، عندما وصلت إلى بغداد كان لدي ستة عشر ديناراً فقط، وكان مقدراً لهذا المبلغ أن يكفيني فترة أسبوعين. وقد ثبت فيما بعد أن ذلك التقدير كان مبالغاً في التفاؤل، إذ إن السلفة الأولى على راتبي لم تدفع إلا بعد مرور ستة أسابيع. بل إن ستة عشر ديناراً ليست بالمبلغ الكبير بالنسبة لغريب في مدينة كبيرة حتى لفترة أسبوعين. ويلقي جميل جبرا بنفسه في خضم المدينة الكبيرة وشوارعها، بيد أن مدينة القدس، بل فلسطين بأكملها، تظل شبحاً يطارد مخيلة الشخوص، مهما حاولوا الهروب منه فحين يسأل جميل كيف الأحوال عن فلسطين؟ أجاب: آ... أفضل الحديث عن بغداد. وتبتعد الشخوص عن فلسطين الجرح والطيف الكامن كلما ذكرت بغداد، حيث يستحضر المشي في شارع الأميرات السير في دروب القدس، يسعدني أن أقول إنني، ومنذ بداياتي، من عشيرة هؤلاء المشائين. ففي طفولتي وحداثتي، حتى سن الخامسة عشرة، لم أركب عربة أو سيارة إلا مرات معدودات متباعدات. وكانت روحاتي وعوداتي إلى الدار والمدرسة على القدمين. ولشارع الأميرات كما لشارع الرشيد في صيادون في شارع ضيق، إذ يمثلان مكانين منفتحين، ويجسدان إطلاقة على رمزية الانفتاح والخلاص من ضيق الجدران، فتنشأ علاقة حب بين جبرا وهذين الشارعين، بخاصة شارع الأميرات لأنه يتميز بانفتاح معظمه من ناحيته الغربية على امتداد الأراضي المكشوفة التي أنشئت فيها ساحة السباق وملحقاتها، كما يتميز بمبانيه السكنية الأنيقة على الناحية الشرقية منه، والجزء الجنوبي من ناحيته الغربية. ولئن تظلل أشجار النخيل قسماً من امتداده الجنوبي، فإن معظم رصيفيه مظلل بأشجار اليوكالبتوس الوارفة، وقد علت وكبرت من الزمن. وتطغى بغداد المنفى على صورة بغداد الحضارية، فحضور جبرا/ جميل فران فيها ليس طوعياً، وإنما نتيجة الاحتلال الاستيطاني والتهجير، بالتالي لا تمثل المدينة موطناً بديلاً، وليس بمقدور الشخوص قبول الأوضاع الجديدة، والتعايش مع الأماكن البديلة. ورغم محاولات جميل الاندماج بالناس إلا أن الأيام تمر كريهة، ترهقه بالفراغ، وشمس المنفى دامية تترك ضوءاً بلورياً قاسياً. كما أن الروائح غالباً ما توصف بالانحطاط، العرق، الغائط، والشوارع باستثناء الأميرات والرشيد ضيقة، إضاءتها باهتة وفيها تجري الأحداث نحو ظلمة أبدية. كذلك هي مغلقة دائماً، وتتنوع بين شقق، مكتبات، مكاتب، سيارات، فنادق بخاصة ملكة سبأ، شهرزاد، المدينة، القمر الطالع، ونُزل المرأة الأرمنية، حمام عمومي، مقاه، إلخ. وتتحول البساتين الواسعة والبيوت الكبيرة إلى خلايا نحل رمادية مغبرة، أو أورام على جسم ممروض. وتضيق رحابة بغداد تحت وطأة النفي، كما ضاقت الشوارع الجانبية، وهي طرق سيئة الإضاءة، تحت الظلام الزاحف، وكثيرة النفايات عند الزوايا، تشبه الوديات الضيقة، التي تمتص أو تتقيأ الأشكال البشرية المجهولة باستمرار. على جانب آخر تبدو الشخصيات النسائية في كتابات جبرا شبيهة بالمدن، ومعادلاً موضوعياً لها، ومؤشراً رمزياً على حياة الشخوص وعلاقتها بالأماكن. ففي سيرته يخصص الفصل الأطول عن زوجته التي أطرى عليها كثيراً لميعة العسكري، وفي صيادون تحل النساء رمزاً عن علاقة جميل بالمدن، فليلى آخر من أحب جميل قتلت في القدس، وسلافة الحلم الذي يتمناه، ومثلما نقرأ ليلى بوصفها فلسطين الضائعة/ المقتولة، تتجلى سلافة القدس المشتهى الرجوع إليها، وبين ليلى وسلافة تحضر سلمى، ولبغداد كما لسلمى، كلتاهما ليست لجميل فران، فالأولى منفى والثانية متزوجة من رجل آخر. ومثلما تهرب من الإجابة عن أحوال فلسطين، يتهرب جميل من الحديث عن ليلى، ولم يفصح لسلمى/ بغداد عن اسم حبيبته الأولى، هل كان جميل يخفي فلسطين عن تساؤلات العراق؟، ومع الوقت يتنامى شعوره بكراهية سلمى، مصاباً بالقلق والخوف عند كل لقاء، إلى الدرجة التي يعلن رفضه صراحة للوطن/المرأة البديلة سأترك ذلك الجحيم، والذي رآه مستنقعاً آدمياً، سقط فيه دون أن تصله بأحد صلة، فكان غريباً عاجزاً عن الاستجابة، والإشكال هنا ليس في بغداد، وإنما في الظرف التاريخي الذي لمّ شمل جميل والمدينة، والمانع لتآلفهما ليظلا معاً غرباء غير حقيقيين، لا يمكن التوفيق بيننا.
مشاركة :