* لأهدافٍ لم تعُد خافيةً على أحدٍ، فإن السلوك الأمريكي، والذي سبق أن رسمه ويحرّكه المشروع الإنجليزي الخبيث المُعدُّ منذ صدور وعد بلفور المشؤوم، وبعد انتهاء حقبة الاستعمار، وقيام ما يُعرف بمنظمة الأمم المتحدة، فقد وضعوا مشروعًا عدوانيًّا مؤداه أن يبقى إقليم الشرق الأوسط، وتحديدًا بعض الدول العربية، منطقة صراعاتٍ وحروب دائمةٍ، يستعر أُوارُ تلك الحروب تارةً، ثم يخبو تارةً أخرى، لكن المهم في الأجندة التي وضعوها هو بقاء هذه المنطقة ملتهبةً ومضطربةً باستمرار.فعندما نستعرض الأحداث التي وقعت منذ إسقاط نظام الشاه في طهران:- بدءًا بخنوع وخضوع أمريكا لهجوم الطلبة الموالين لثورة الخميني التي لم تكن حينذاك قد أكملت عامها الأول عندما قاموا باحتلال السفارة الأمريكية، واحتجزوا اثنتين وخمسين رهينةً من الأمريكان لأكثر من (440) يومًا.- تلي ذلك إيقاد أمريكا فتيل الحرب العراقية الإيرانية لمدة ثمانية أعوامٍ، ثم تبعها إسقاط نظام صدام بمزاعم وجود أسلحة دمارٍ شاملٍ يهدد المنطقة.- ثم خططوا لنشر ما عُرِف بـ «الفوضى الخلّاقة»، وهو ما سمُّوه في الإعلام الموجَّه للعرب خصيصًا بـ «الربيع العربي»؛ بهدف زعزعة الأنظمة، وما تمخَّض عن ذلك من نتائج كإجبار الرئيس المصري السابق حسني مبارك على التخلي عن السلطة، على اعتبار أنهم قد أعدُّوا العدَّة كي تؤول مقاليد الأمور إلى جماعة الإخوان.- أعقب ذلك إطلاقهم يد إيران للتدخل السافر في بعض الدول العربية، حتى أن وزير استخبارات نظام الملالي السابق حيدر مصلحي صرَّح بكل غطرسةٍ بأن بلاده أصبحت صاحبة القرار في أربع عواصم عربية.- ثم ما تكشَّف من امتعاض إدارة أوباما وفق ما جاء في اعترافات وزيرة خارجيته كلينتون، إزاء مناصرة مملكة البحرين كإحدى دول منظومة دول مجلس التعاون الخليجي ضد التدخل الصفوي في البحرين بمحاولة إثارة القلاقل.- ثم سقوط القناع أكثر من أي وقتٍ مضى عن هذه الازدواجية في المعايير، خصوصًا من قِبَل الحزب الديمقراطي الحاكم في البيت الأبيض حاليًّا بعد ما عمد الرئيس بايدن، فور توليه الرئاسة، إلى إلغاء قرار سلفه الرئيس ترامب، الذي كان قد اعتبر، وهو مُحقٌ في ذلك، عصابة الحوثي في اليمن المدعومة من إيران تنظيمًا إرهابيًّا، ثم محاولة بايدن الحثيثة لإحياء توقيع الاتفاق الذي يسمح لإيران بتطوير سلاحها النووي، ورفع الحظر عن مئات المليارات من الدولارات وإعادتها لإيران.- وأخيرًا مخالفة أمريكا لما تنادي به من وجوب تحقيق الديمقراطية للشعوب، واحترام حقوق الإنسان، بينما ها هي تغضُّ الطرف عمَّا ارتكبه ويرتكبه النظام الدموي الإيراني بحق شعبه منذ اندلاع المظاهرات القائمة حاليًّا، والتي تغطي كل الأقاليم والمدن الإيرانية احتجاجًا على الطريقة التي صاحبت إنهاء حياة الفتاة مهسا أميني على يد قوات بوليس الأخلاق الإيراني، ولم نسمع لأمريكا وباقي الدول الأوروبية ردة فعلٍ حازمةٍ توقف هذا الصلف والتعنت والتقتيل ضد أولئك المتظاهرين منذ أكثر من شهر، تجاوزت فيه حصيلة قمع تلك المظاهرات أكثر من مائة وخمسين قتيلًا، بينهم عشرات الأطفال.وربّما تكون الأحداث مزعجةً ومحرجةً للإدارة الأمريكية غير أنه لم يكن في حسبانها، هي ونظام ولاية الفقيه في إيران، أن المظاهرات هذه المرَّة سيطول أمدها وتزداد يومًا عن ذي قبله، وبالرغم من ذلك، حتى الآن لم نسمع بقراراتٍ حازمةٍ أو إجراءاتٍ صارمة، عدا بعض التصريحات على استحياءٍ، وهذا يؤكد أن أمريكا لا تريد التفريط في علاقتها بالنظام الإيراني، عكس ما كان يصدر من تصريحاتٍ يوميةٍ تؤيد ثورات الربيع العربي إبَّان وجود أوباما في المكتب البيضاوي، ومعه الشمطاء كلينتون.وباختصار... فإن ما يمكن الخلوص إليه من هذا التباين، والكيل بمكيالَين في التعامل مع الأحداث، بل وحتى من خلال إثارة الحديث بين الحين والآخر عن قرب توقيع الاتفاق النووي أن أمريكا تمارس ما يعتقد أنه انتقادٌ وضغطٌ على النظام الإيراني، لكن وإن كان كذلك، فالمؤكد أنه ليس لإسقاطه، بل فقط لإضعافه ليس إلا، وستبقى حريصةً على المحافظة عليه؛ ليستمر مصدر خطورةٍ وصاحب قرار في بعض دول الإقليم؛ لتمارس واشنطن من خلاله هيمنتها، ومعاقبة بعض دول المنطقة التي لا تذعن لرغباتها وغطرستها.
مشاركة :