بعد ستة أسابيع فقط من خلافة «ليز تراس»، لـ«بوريس جونسون»، رئيسة للوزراء، من المقرر أن تشهد بريطانيا الآن تولي رئيس وزراء ثالث في غضون عدة أشهر مع استقالتها، وسط تمرد من النواب، وفقدان الدعم الشعبي، وانهيار سياساتها الاقتصادية الأساسية. ولكونها أقصر فترة رئاسة لرئيس وزراء بريطاني، حيث استقالت بعد 44 يومًا فقط من تقلدها منصبها؛ رأى «ويليام بوث»، و«كارلا آدم»، في صحيفة «واشنطن بوست»، أن سقوط «تراس»، جاء نتيجة «عدم الكفاءة»، و«افتقادها القدرة على تسويق رؤيتها»، إلى نواب حزب المحافظين، وبشكل أوسع «الناخبين»، وكذلك «متداولو العملات والسندات في لندن». وأشار «مارك لاندلر»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، إلى أن الأسواق المالية العالمية، «حكمت على أجندتها الاقتصادية الراديكالية»، بأنها «فقدت مصداقيتها»، وأدى ذلك إلى «حسم مصيرها بلا رحمة». ووفقا للعديد من المحللين، فإن «سوء الإدارة الاقتصادية»، كان السبب الأساسي للانهيار السريع للحكومة، والذي تركز على «الميزانية المصغرة»، التي دافع عنها المستشار «كواسي كوارتنج» في نهاية سبتمبر 2022، والتي أعطت الأولوية للتخفيضات الضريبية لأصحاب الدخول الأعلى في وقت يتزايد فيه التضخم؛ ما أثار انتقادات المراقبين والسياسيين على حد سواء. وحذر «صندوق النقد الدولي»، من أن التغييرات «ستدفع فقط التضخم للأعلى»، كما وصف الرئيس الأمريكي، «جو بايدن»، سياسات الحكومة بأنها «خطأ»، وأوضح أنها ستسبب في اضطرابات «يمكن التنبؤ بها». واستجابةً أيضا لردود الفعل المتزايدة من الاقتصاديين والبرلمانيين، فيما وصفته صحيفة «الجارديان»، بأنه «واحد من أكثر التحولات في التاريخ السياسي الحديث»؛ تم إلغاء كل «أجندة تراس الاقتصادية» تقريبًا، وعُزل المستشار «كوارتنج» من مجلس الوزراء بشكل غير رسمي. وعلى الرغم من أن تعيين «جيريمي هانت»، بديلا له في الحكومة، كان «موضع ترحيب»، حيث وصفته مجلة «الإيكونوميست»، بأنه «عنصر سياسي أكثر خبرة»، وإصرار المستشار الجديد على أن الحكومة «ستتخذ ما يلزم من قرارات صعبة لضمان توفر مسؤولية وثقة في مواردنا المالية الوطنية»، التي بدت وكأنها بهدف «تهدئة» الأسواق؛ إلا أنه وفقًا لشبكة «بي بي سي نيوز»؛ أدى التراجع السريع للإصلاح الضريبي المخطط له إلى تدمير تفويض «تراس» من أعضاء حزب المحافظين الذين انتخبوها، حيث تحولت أجندتها إلى «حبر على ورق»، من وجهة نظر صحيفة «فاينانشال تايمز». ومع وصف مجلة «الإيكونوميست»، تراجع الحكومة عن سياستها الضريبية، بأنه «إهانة» لرئيسة الوزراء، وإشارة «جوشوا نيفيت»، من شبكة «بي بي سي نيوز»، إلى أن هذا التراجع «أضر بسلطتها السياسية»، وتكرار المعارضة داخل حزب المحافظين -والتي أجبرت جونسون على التنحي من منصبه في نهاية الأمر - مطالبها نفسها مع «تراس»، ومن بينهم السير «تشارلز ووكر»، النائب البارز في الحزب، الذي وصف موقفها بأنه لا يمكن الدفاع عنه في ظل وضعها البلاد أمام «قدر هائل من الألم والانزعاج غير الضروريين»؛ كان بقاؤها في منصبها «موضع شك». علاوة على ذلك، كانت القدرات القيادية الشخصية لرئيس الوزراء «محل نزاع» أيضًا، وهو ما ظهر في استقالة وزيرة الداخلية، «سويلا برافرمان»، بعد ما وصفته «الإيكونوميست»، بأنه «سلسلة من الانفعالات»، التي «تتناقض فيها مواقفها مع موقف رئيسة الوزراء بشأن الهجرة»، حيث اتهمتها الوزيرة، بممارسة «سياسات غير جادة»، و«الاستمرار على ذات النهج» على الرغم من «ارتكاب أخطاء لا يمكن إنكارها»، على أمل أن الأمور ستتحقق بطريقة سحرية». وحتى خلال أيامها الأخيرة في المنصب، كانت كلمات «تراس»، تناقض أفعالها، وأصرت قيادة المحافظين إلى الانتخابات العامة التالية في عام 2024، وأخبرت «مجلس العموم»، أنها كانت «مقاتلة، وليست مستسلمة»، لكنها أقرت بعدها بيوم، أنها لن تستطيع «تنفيذ التفويض»، الذي انتخبت لأجله من قبل الحزب. وربما كان الأمر الأغرب في أفول نجم «تراس»، السياسي وخسارتها للسلطة؛ متمثلا في سخرية صحيفة «ديلي ستار»، من قبضتها على السلطة في أيامها الأخيرة، من خلال إقامة مقارنة مباشرة بين مستقبلها السياسي، وفترة صلاحية الخس في السوبر ماركت. ومع تغطية وسائل الإعلام الدولية على نطاق واسع، بأن رئيسة الوزراء أضحت «هدفا للنكات البريطانية»؛ علقت صحيفة «واشنطن بوست»، بعد استقالتها بأن الصحف الشعبية انتصرت في نهاية المطاف، وأن «رأس الخس، انتصر على تراس». وبطبيعة الحال، انصب تركيز المراقبين والسياسيين على من سيخلف رئيسة الوزراء. وعلى النقيض من الانتخابات السابقة لحزب المحافظين، سيتم الانتهاء من هذه المنافسة في أقل من عشرة أيام، وفقًا لتقدير «لجنة عام 1922» لنواب الحزب البارزين. وأشارت «كيت وانيل»، من شبكة «بي بي سي»، إلى أن المرشحين المحتملين سيحتاجون إلى «100 ترشيح على الأقل من زملائهم في البرلمان من الحزب للحصول على حق الترشح»، بحلول 24 أكتوبر، ما يعني أن المنافسة ستنحصر بين ثلاثة أسماء كحد أقصى. ووفقا للعديد من المحللين، فإن أبرز المتنافسين المحتملين، هو وزير الخزانة السابق، «ريشي سوناك»، الذي جاء في المركز الثالث في سباق زعامة حزب المحافظين في المنافسة الأخيرة مع «تراس»، وكذلك الزعيمة الحالية لمجلس العموم، «بيني موردونت». وربما تشهد الحياة السياسية عودة رئيس الوزراء السابق «بوريس جونسون»، الأمر الذي لا يمكن التنبؤ به حتى الآن. ووفقًا لشبكة «سي إن إن»، فرغم أنه شخصية مثيرة للجدل، إلا أنه قد يكون «مرشحًا قادرًا على توحيد القوى والتيارات المختلفة، ويمكنه تحقيق الاستقرار في البلاد». وبينما أعرب العديد من أعضاء البرلمان بالفعل عن دعمهم لعودة «جونسون»؛ إلا أن سلطته نفسها لا تزال مُقوضة لمبررات أقلها أن «هناك تحقيقا لا يزال جاريا لمعرفة ما إذا كان قد كذب على البرلمان، فيما يخص فضيحة «بارتي جيت»، أثناء انتشار جائحة كورونا، وهو التحقيق الذي قال عنه «روب ميريك»، في صحيفة «إندبندنت»، أنه «قد يؤدي إلى إيقافه» من قبل مجلس العموم، وهو ما قد يضيف في النهاية مزيدا من المشكلات والاضطرابات إلى العملية السياسية البريطانية. وعلى الرغم من أن «جيريمي هانت»، قد نأى بنفسه عن الترشح لزعامة حزب المحافظين، ورئاسة الوزراء، إلا أن مجلة «الإيكونوميست»، أصرت على أنه من المتوقع أن يمارس «سلطات كبيرة» في الحكومة المقبلة، كرئيس لأجندة بريطانيا الاقتصادية. وذكرت صحيفة «الجارديان»، أن النواب المحافظين، كانوا قد بدأوا بالفعل الإشارة إليه على أنه «رئيس وزراء فعلي محتمل»، قبل إعلان رحيل تراس، وذلك في ضوء تأثيره القوى في مجلس الوزراء الحالي. وأثارت الاستقالة السريعة من رئاسة الوزراء وزعامة المحافظين، من قبل شخصية تعتبر الرابعة في الترتيب لتولي تلك المهام خلال الستة أعوام الأخيرة، دعوات لإجراء انتخابات عامة في المملكة المتحدة؛ لتوفير قدر أكبر من الوضوح، وذلك في لحظة وصفتها «إيلين إيوانز»، في موقع «فوكس» بـ«الأزمة السياسية». وستوفر الانتخابات العامة - حال انعقادها في هذا الوقت - «فرصة كبرى»، لحزب العمال المعارض لاستعادة السلطة لأول مرة منذ اثني عشر عامًا. وأشار استطلاع رأي أجرته شركة «ريدفيلد آند ويلتون ستراتيجيز»، في أكتوبر2022، إلى إحراز حزب العمال تقدمًا بفارق 36 نقطة على المحافظين، وهو أكبر تقدم لحزب سياسي بريطاني لمدة ربع قرن. وفي ضوء ذلك، لابد من الإشارة إلى أن حكومة حزب المحافظين الجديدة التي توافق على الدعوة لإجراء انتخابات، قد تخاطر بفقدان قدر لا بأس به من المقاعد البرلمانية، بالإضافة إلى تحول الأخيرة إلى حزب معارض تحت أروقة مجلس العموم. وعلاوة على الاضطرابات السياسية الراهنة، لا تزال «بريطانيا»، تواجه حالة من عدم اليقين الاقتصادي. ويشير العديد من المراقبين إلى أن الأضرار التي طالت اقتصاد البلاد بفعل حكومة «تراس»، «يصعب تغييرها». وأوضحت «كريستينا لو»، في مجلة «فورين بوليسي»، أنه «من غير الواضح ما إذا كان بإمكان أي شخص إنقاذ الاقتصاد البريطاني المنهك من حافة الهاوية». ورأت مجلة «الإيكونوميست»، أن التغييرات التي وضعها «هانت»، ستكون «غير كافية لإخراج الحكومة من المأزق المالي، التي ورطت نفسها فيه إلى حد لا يمكن تصوره». وبالمثل، أفاد «معهد الدراسات المالية»، أن الزيادات الضريبية المخططة حديثًا، والتي تبلغ 32 مليار جنيه إسترليني، لن تكون كافية لتدارك الضرر الاقتصادي، الذي أحدثته «الأسابيع القليلة الماضية». ومن جانبه، أشار «إيش نلسون»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، إلى أنه بالنسبة إلى رئيس الوزراء القادم، فقد بات واضحًا أنه «سيواجه قائمة طويلة من التحديات الاقتصادية»، وسط «مرحلة أخرى مستمرة» من حالة «عدم اليقين». وأكد «جاجيت تشادا»، من «المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية»، أن هناك «احتمالات ضئيلة للغاية لتحقيق نمو قوي» في الاقتصاد البريطاني مستقبلاً. وقال «تريفور جريثام»، من شركة «فيدلتى وورلدوايد للاستثمارات»، إن «الكيفية التي يمكن أن يساعد بها البعد السياسي الشؤون المالية، ستكون «التوافق البرلماني لحزب المحافظين حول مرشح بعينه»، يعمل على «تصحيح» الوضع الاقتصادي، واتباع جدول الأعمال الذي وضعه «هانت» في هذا الصدد. ومع ذلك، علق «أنطوان بوفيت»، من بنك «آي إن جي»، بأن الأمر «سيستغرق سنوات لبناء دولة» ذات سمعة وأداء مالي يتسم بالقوة، في ظل أن الأوضاع المالية العامة في البلاد، تواجه تحديات وصعوبات طويلة الأمد. من ناحية أخرى، أشار المحللون أيضًا إلى الأضرار المحتملة للأزمة الاقتصادية والسياسية على مكانة بريطانيا الدولية. وكتب «جاك ديتش»، و«روبي جرامر»، في مجلة «فورين بوليسي»، أن «الضرر الناجم عن استقالة رئيسين للوزراء في عدة أشهر، يمكن أن يكون له آثار فوضوية أوسع في السياسة الخارجية»، مشيرين إلى أن الرئيس الروسي، «فلاديمير بوتين»، يحتفل على الأرجح بـ«التخلص من أحد أقرب الحلفاء الموالين لأوكرانيا على المسرح الدولي». ومن جانبه، سخر نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، «دميتري مدفيديف»، من «تراس»، في تغريدة على تويتر، قائلا: «وداعا تراس وتهانينا للخس»، في إشارة إلى التحدي الذي أطلقته صحيفة «ديلي ستار»، والسابق الإشارة إليه. وعند التفكير في الكيفية التي أصبحت بها «المملكة المتحدة»، «مصدرًا للسخرية، والشفقة، والشماتة من الأطراف الخارجية»؛ فقد رفض السفير البريطاني السابق لدى «الولايات المتحدة»، السير «بيتر ويستماكوت»، هذه الحالة المزرية، ووصفها بأنها «مهينة لبلد، لطالما كان نموذجًا للديمقراطية الفعالة». وبالمثل، فإن الطريقة الذي بدا فيها السياسيون البريطانيون «منغمسين في حالة أشبه بالارتجال، واختبار رؤاهم»، قد «زعزعت الإطار الدستوري للبلاد، وكذلك سمعتها على حد سواء»، وكما تقول «برونوين مادوكس»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، فإن على بريطانيا «إظهار مدى قوتها، لكونها دولة تحترم القانون، وأساليب الحوكمة الرشيدة في أعلى قيمها». على العموم، أخفقت رئيسة الوزراء - المنتهية ولايتها - «ليز تراس»، في التخفيف من تداعيات الأزمة السياسية التي خلفها «بوريس جونسون»، وربما جعلت تلك الأزمة أسوأ مما كانت عليه من خلال تغذيتها لحالة عدم اليقين الاقتصادي، والارتباك حيال جدول أعمال اقتصادي فاشل، وفي غضون ذلك وفقا لـ«إيوانز»، كان رئيس الوزراء السابق، «يعمل داخل حزبه ليضمن عودته مع فشله في تبني رؤية موحدة لبلاده بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي»؛ وهي الأمور التي تشير إلى أن حزب المحافظين يعاني من «مشكلات تتعلق بآرائه الداخلية، والذي يمكن وصفها بأنها «تخيلية بعيدة عن الواقع». وعليه، فإن من سيحل محل «تراس»، بنهاية أكتوبر، سيتعين عليه أن يعالج، ليس فقط حالة عدم اليقين الاقتصادي، وعدم شعبية حزبه بين الناخبين؛ ولكن أيضًا مواجهة «الشكوك الطويلة المدى حول هوية حزب المحافظين، ومقدار انتمائهم إليه».
مشاركة :