الاقتصاد العالمي .. تأثير المتغيرات والتوقعات

  • 10/27/2022
  • 23:43
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

لقد تعلمت درسا قاسيا من الولوج في التوقعات، خصوصا التي لها علاقة مباشرة بتوجهات ومسارات الدورة الاقتصادية. ويضع الباحثون الأكاديميون المعنيون بشؤون الاقتصاد في الأغلب شروطا لتوقعاتهم، كأن يقولوا إنه سيقع كذا وكذا فقط عند ثبات المتغيرات التي استندوا إليها في بحثهم. وبعض المتغيرات التي يتجنب الباحثون، حتى غير الباحثين، وضعها في عين الاعتبار، لها تأثير مزلزل في توجهات ومسارات الدورة الاقتصادية. ومنها ما قد لا تفيد في درء تأثيره أي احتياطات مهما كان حجمها وسعتها. ويبدو أنه كلما وسع الاقتصاد زاد تأثير المتغيرات غير المتوقعة فيه. وهذه الفرضية تنطبق على الحياة بصورة عامة. إن خسر غني ماله فجأة، لكان وقع ذلك كبيرا عليه وعلى من حوله وأبعد من ذلك. لكن إن خسر فقير القليل الذي لديه، فإن وقع ذلك وتأثيره لن يتجاوز الشخص المعني ومن بمعيته مباشرة. وهكذا الدول والمجتمعات، فإنه من النادر أن يتضمن الباحثون والمختصون ما قد يقع فيها من أحداث غير متوقعة في قائمة المتغيرات لقياس حالة الاقتصاد. كانت هناك حروب كثيرة في العقود الأربعة الماضية، وكان الغرب بقيادة الولايات المتحدة طرفا مباشرا فيها، بيد أن هذه الحروب كان في الأغلب مسرحها مجتمعات فقيرة أو معدومة. الفقراء من الدول كانوا يخسرون الحرب أو يقاومون، لكن الحروب هذه، رغم أهوالها الفظيعة، لم تقحم العالم أو الاقتصاد العالمي في دوامة. إلا أن الحرب الضروس المشتعلة في أوروبا حاليا التي مسرحها حتى الآن الأراضي الأوكرانية أدخلت العالم واقتصاد دول صناعية عملاقة في دوامة. والدوامة وما أدراك ما الدوامة، فهي البحر الذي تدوم عليه الأمواج العاتية بسرعة فائقة، وكلما زادت شدة الموج ضاق أسفلها واتسع أعلاها. ومن الدوامات ما ابتلع سفنا بركابها وبضاعتها. الاقتصاد العالمي، خصوصا اقتصاد الدول الأوروبية الغربية، يمر بما يشبه الدوامة التي تغذيها الريح العاتية والأمواج العالية. هذه الدول أخذت جديا تفكر فيما قد يخبئه لها المستقبل القريب وليس البعيد. فمنذ فترة ليست بالقصيرة، صارت تشهد هذه الدول تراجعا في قيمة عملاتها، وأغلبها يعد من العملات الصعبة، وتدهورا في الصناعة الوطنية التي لم تعد بعض حلقاتها الرئيسة مجزية في أوطانها فيعمد أصحابها إلى نقلها إلى أماكن أخرى. حتى قبل أن تضرب الأزمات "المتغيرات" التي لم يضعها الخبراء في الحسبان مثل الأزمة المالية الخانقة في 2008، وأزمة وباء كورونا في 2020، وحاليا أزمة الحرب في أوكرانيا، كانت اقتصادات أغلب هذه دول في معاناة. النموذج الاقتصادي البريطاني مثلا كان يستند كثيرا إلى جذب رؤوس الأموال، وهذا ينطبق بدرجة أكبر على الاقتصاد الأمريكي، وإلى حد ما على أغلب الدول الصناعية الغربية. وتدفق رؤوس الأموال مكن الاقتصادات الكبيرة في الغرب ـ بريطانيا وأمريكا مثلا ـ من الحفاظ على مكانتها الاقتصادية ودرء الأخطار. ورود رؤوس الأموال بأحجام كبيرة ـ عشرات المليارات من الدولارات ـ مكن هذه الدول من تجاوز الأزمات. ومكنها كذلك من مقاومة، وأحيانا تخفيف، الآثار الجانبية للركود الاقتصادي رغم استمرارها في طبع كميات كبيرة من النقود غير المغطاة في كل أزمة مرت بها. وهكذا ساعدت تدفقات رؤوس الأموال وطبع كميات هائلة من النقد الدول هذه، على تجاوز الأزمة المالية 2008، وكذلك أزمة وباء كورونا. لكن الأزمة التي سببتها الحرب في أوكرانيا كان وقعها من الشدة حيث لم تعد الأساليب التقليدية مثل طبع كميات ضخمة من النقد غير المغطى، فاعلة كالسابق. فوقعت هذه الدول في شباك التضخم إضافة إلى معضلة الركود الاقتصادي، فسقطت في دوامة لا تعرف السبيل إلى الخروج منها. المعروف والسليم اقتصاديا هو خفض سعر الفائدة لدرء مخاطر الركود وإنعاش الاقتصاد. وبدلا من أن تدرس البنوك المركزية في أوروبا أوضاعها الخاصة بعيدا عن التقليد، أضحت فريسة لما يقرره البنك الفيدرالي "المركزي" الأمريكي، لا بل ذهبت بعيدا في السير على نهجه. الولايات المتحدة لا تعاني بقدر الدول الغربية الأخرى التضخم والركود في آن واحد. لهذا كان البنك الفيدرالي ذكيا في رفع سعر الفائدة بنسب تفوق تلك التي لدى الدول الغربية الأخرى، ما جعل أمريكا مرة أخرى ملاذا ومغناطيسا لجذب رؤوس الأموال من جميع أنحاء العالم وعلى حساب الدول الغربية الحليفة الأخرى. وإن كان الاقتصاد الأمريكي يتحمل نسب فائدة عالية تبلغ حاليا أكثر من 3 في المائة، يبدو أن الدول الغربية الأخرى تخشى نسبا موازية خشية حدوث أزمة ديون حادة. ومن ثم فإن أمريكا لا تعاني بالشدة التي تعانيها الدول الغربية الأخرى بقدر تعلق الأمر بالطاقة، التي تشكل أزمة كبيرة في أوروبا حاليا. حتى في هذا جرت الدول الغربية في أوروبا وراء الولايات المتحدة جريا ربما دون تفكير مسبق بالعواقب، فأخرجت عملاق الوقود الأحفوري من أسواقها، أي روسيا، التي كانت تجهزها بأكبر نسبة من احتياجاتها للنفط والغاز وبأسعار تفضيلية. وهذا درس سيبقى شاخصا ولفترة طويلة أمام عيون وفي عقول علماء الاقتصاد والساسة في الدول الغربية وأساسه، أن معاداة عملاق طاقة من خلال عزله وفرض الحصار عليه ليس بالأمر الهين أبدا، وقد ينعكس وبالا. هذا شرح موجز للدوامة التي تمر بها الدول الغربية حاليا، ويفسر لنا الثمن الذي على الاقتصاد الغربي دفعه في معاداة أي قوة عظمى في الوقود العادي.

مشاركة :