يقول منظّر الحداثة الجماليّة شارل بودلير: "ان العنصر الفريد في الجمال إنّما يلقى في الذّات، ويصدر عن لواعجها وأهوائها. وبما أن لكلّ منا أهواءه الخاصة، فلكلّ منّا جماله.[1] بمجرّد ما نتحدث عن الصّحراء ومشاهدتها يتبادر لأذهاننا للوهلة الأولى أنّها أرض قفراء، فنتساءل: ما الجميل في الصّحراء حتى يحبّها أو يعشقها الإنسان وتكون مصدر الهام المبدع الفنّان؟ ونسينا أن فيها أهواءنا الخاصة وأنّها أرض خلقت للهدوء و التأمّل و واللّجوء إليها في وقت ما وأنّها مصدر الهام الكثير من الفنّانين. من خلال السؤال أوالتساؤل عن معنى الصحراء. يتبادر إلى الأذهان التّساؤل عن ماهيّة العلاقة بين الصّحراء كفضاء ونمط حياة والتّشكيل كممارسة فنيّة تعكس نوع الثّقافة؟ أهي حقّا فضاء للتّأمل والإلهام والإبداع؟. بشّار الحروب فنّان من فلسطين من مواليد القدس سنة1978، حاصل على الماجستير في الفنون المعاصرة من جامعة وينشستر للفنون الجميلة- جامعة ساوث هامبتون– بريطانيا سنة 2010. تحصّل على الجائزة الأولى في بينالي الفنّ الأسيوي الخامس عشر بنغلادش سنة 2012.ارتوى من الممارسة التشكيليّة الفلسطينيّة وارتحل من خلالها إلى انتاج أسلوب فنيّ يفرّده عن غيره من خلال توظيف المحيط الخارجيّ بما يحتويه من انتماء ذاتيّ وماديّ، لينتج أعمالا تحمل المكان كفضاء محوريّ لتّشكيل، فينقل بذلك خصوصيّة المكان من الخاصّ الذاتيّ الى العامّ.. يعيد بشّار الحروب إحياء المكان في تشكيله وتعبيراته ليكون نقطة وصل بين هويّة الاثر الفنيّ وهويّة الفنان الذاتيّة والمتلقي من جهة ثالثة، فينتج تفاعلا مستوحى من الواقع اليوميّ، معبّرا عن العمل الفنيّ في تمفصلاته عبر أساليب فنيّة متعدّدة ووسائط مختلفة في جلّ أعماله مابين الرسم والطّباعة والتّصوير الضوئيّ والتّركيب والتّصوير والنّحت... رحلة وترحال، وسفر من جديد إلى فضاء جديد ومشهد تشكيليّ في ممارسة فنيّة معاصرة يأتي فيها "ارض الملح"، كذا اختار الفنان بشّار الحروب من رام الله فلسطين أن يسمّي معرضه الحديث برواق 'كريم" بالعاصمة الأردن عمان والذي احتوى أعمالا فنيّة بأحجام كبيرة مختلفة، تتمثّل في جداريّات سيراميكيّة ولوحات فنيّة ملوّنة، تميّزت بتقنيّات غنيّة متناغمة ومتناسقة هي نتاج تجربة بحث وتأمّل طويل خاضها الفنّان ليرسم لنا مشروعا فنيّا اتّسم بمشهد طبيعيّ.لقد كان للمكان الجغرافيّ والهويّة والخريطة حضور مميّز في أعماله الفنيّة وهو نتاج تأمّل في جوف ارض صحراويّة جافّة تقع بين فلسطين والأردن يذهب إليها باستمرار رغم أنها خالية من الدّيار والأشجار وصفها الفنان ب"الرّماديّات" . من خلال التّمعّن في ما تناوله بشّار في لوحاته التي كانت تجسّد تأثّره الواضح بكل تفاصيل محيطه وبما تخلله من تقلبات زمانيّة ومكانيّة، تظهر جليّا للرائي نظرة الفنّان المتمرّدة وأسلوبه المتفرد.لا تخلو جل أعمال بشّار الحروب من تناغم بين الطرافة والغرابة في الطرح والتّجسيد، لتغوص بك في فضاء اللّوحة بنسق ديناميكيّ بين التّموجات والألوان لترسم كثبانا رمليّة في حركة عفويّة حيويّة مندفعة تجعل النّاظر يبحر في عالم من الهدوء والسّكينة .فنخال اللّوحة موشكة على التّحرك وتكاد تخرق حدود الإطار حينا، وتأخذنا من خلال طبيعة تعبيريّة إلى فناء أو ركن ما من حلم، لنعيش في سلام داخليّ مع أرواحنا ونستمتع ببعد جماليّ وتوازن بين التّركيبة الشكليّة وسحر الألوان في الآن ذاته حينا آخر. يجعلك بشّار الحروب من خلال جداريّاته السيراميكيّة ولوحاته الملوّنة في تناقض مميّز بين الواقع وخيال حالم يصوّره لنا بتعبيريّة فائقة لتصبح ثنائيّة من الحلم بالسّكون والهدوء والتّعايش من جهة أخرى. لم يبخل الفنان علينا بما إكتسبه من خبرة وحنكة السّنين من التّجربة الفنيّة في حياته،لقد كان بارعا في اختيار الاساليب المناسبة في تصوير عوالمه التشكيليّة، ليبهرنا بحس جمالي مرهف ويكشف لنا عن روحه المفعمة بالحيويّة والايجابيّة في علاقة بين الطرح الإيحائي الفكريّ والتقني للمادة اللوحة. لقد صنع بشّار الحروب لنفسه لونا مميّزا يميّزه عن سواه دون الوقوع في المحاكاة، فكانت له بصمته الخاصّة في خضم الضّجيج والقلق والازدحام ليأخذنا هناك،الى حياة تنعم بالهدوء في عين وروح الفنّان. كان لازما البحث عن ثنايا وأماكن للّجوء إليها والإحساس بالأمان والسّلام الداخلي،ما أخذنا إليه بشّار الحروب هو نتاج بحث متواصل وإلهام لا ينقطّع لفنّان مفعم بالطّاقة وحبّ الحياة والايجابيّة في تصوّرات لواقعه المعاصر. يقول بشّار الحروب عن مشروعه الفنيّ في تصوّر الحياة هناك، محدثا ايانا عن المكان الجغرافيّ الذي يهيم به دائما مشير إليه بتوقّف الزّمن فيه،ليخرجه في"ارض الملح" : "لاتشي الجيولوجيا بأنّ حياة كانت في هذا المكان، كـأنّ التّكوين قد توقّف في لحظة ما هنا...مابين سدوم وعمورة سكنت شعوب وقبائل ... أنبياء وملائكة عبروا من هنا.. لايوحي المكان بأيّ حياة كانت هنا، لا أثر مرئيّا الّا ماورد في النّصوص الدينيّة والمثيولوجيا وأبحاث أركيولوجيّة، كأنّه المطهّر بين الجنّة أو الجحيم، والجحيم مهرب القدّيسين والقارئين من بطش الغزاة الذين احتلوا البلاد... في مكان يموت فيه اللّون الا من عبور في الرّماديات.. مكان فيه متّسع للتّأمل والخيال، تشغلك فيه فكرة التّكوين وبداية الخلق". "جنّة" بشّار على الأرض هي مساحته التي يختلي فيها بنفسه ويعتبرها كفضاء أساسيّ لتأمّلاته. يفكّر كلّما زارها كأنّها جزء منه، أو انّه امتلكها وصارت ملكه ويجب ان يغيّر ويبدّل فيها ويبثّ فيها الحياة ولو برؤيتها ذات ألوان وكأنّ الألوان مصدر الطّاقة والرّوح، كما قال:" سعيت لأحياء هذه المساحة الجغرافيّة، عبر بثّ الرّوح فيها من خلال لوحات ملوّنة وجداريات سيراميكيّة، دون الابتعاد عن فكرتي التأمّل والصّمت ولكن بالانتصار الى الحياة، متّكئا على تقنيّة الاختزال وعلى تجربتي الشّخصيّة مع هذه المساحة الجغرافيّة التي تبدوا كالأرض اليباب، باعتبار انها تلك المساحة التي تلتقطها أعين الفلسطينيين من نوافذ الحافلات والمركبات العموميّة في رحلاتهم المتكرّرة من فلسطين عبر الأردن، وكأن في هذه الجغرافيا مايشكل انعكاسا للحالة الفلسطينيّة منذ أكثر من ستيّن عاما". يأتي بشّار ليغيّر ويبدّل ويسكب ألوان الاكريليك وكأنها مطر ينزل من السماء بأحلام ملوّنة على صحراء يبعث فيها الروح من جديد ليزيح كل رماديّات الجفاف ويستبدلها بطاقة تشبع الصّحراء لتروى ألوانا. تأمّل، فتخيّل، فغيّر،ألوان بشّار هي مصدر توقّعاته الفنيّة لذلك أضفى عليها بصمته الخاصّة وجاء بفكرة مدهشة تنساب فيها الحريّة والتحرّر لتغرس في المسافرين وتحرّرهم من كل ماهو سائد وبائد ورماديّ، وتبث الحلم فيهم برؤية فنيّة وجماليّة وروحيّة رائعة ومميزة. حثّنا الفنّان بشّار الحروب عن تنشيط مخيّلتنا والخلوّ بأنفسنا ولو قليلا للتّأمل، نشاهد قبل وبعد ليصبح ماعوّدنا عليه الفنّان، من التّأمل في الطّبيعة والأشياء والصّحراء خاصّة دافعا لنا أن نحلم لما نريد وبما نريد ونغيربأنفسنا ولأنفسنا ونرسم كما نريد. من الجدير بالذكر ان أعمال بشّار الحروب تتعامل مع المكان الجغرافيّ والفضاء المفتوح والسفر والتّرحال والاكتشاف وطريقة تأمّله وتعبيره، لتؤكّد على هويّته وكأنّه يقول في كلّ مكان وزمان ان هذا المكان أو ذاك المكان ملك لنا،ويريد بشار ان يزرع فينا مراجعة أنفسنا ومعرفتها أكثر والآخرين، والمكان الجغرافي كما لو كان صحراء. [1]C Baudelaire, curiositéEsthétiques salon de 1845 (éd Garnier frères ,1962) p74.
مشاركة :