إنني مثل الكثير منكم، يؤلمني ما حلَّ بمنطقتنا والعالم من عنفٍ وتدميرٍ ودمارٍ، دافعه صراع طائفي خبيث، لا يقرُّ بالمواثيق والعهود، وفوق كل شيء ما شرعه الخالق سبحانه. بدأتُ أفكّر في بعض الأسباب التي أدّت بنا لهذا الحال، وبدأتُ بالنظر للماضي المعاصر للتعلّم من دروسه، والاستفادة من عبره. وعندما حدث الاعتداء الآثم، الخسيس والجبان، على السفارة والقنصلية السعودية في إيران، جال بخاطري خمس مقالات كنتُ قد كتبتها منذ نحو 28 عامًا، بعد ثورة الخميني في إيران، والتي نُشرت في إحدى الصحف السعودية.. وأردتُ أنْ أُشاركَ القارئَ الكريمَ بها، لأنّها مازالت -في اعتقادي- معاصرةً لحاضرنا الذي نعيشه.. لماذا؟! لأن إيران، وسياستها العدوانية، ومؤامراتها، وأيديولوجيتها الشريرة مازالت تطفو على السطح بذات الأهداف والإستراتيجية. وقد تعمّدتُ ألاَّ أُغيِّر أيَّ شيءٍ في هذه المقالات؛ لنرى معًا كيف أن التاريخ مرآة الزمن..!. الموضوع: الإسلام والسلام.. والفتنة الخمينية الكبرى (1) أكثر من أربعين عامًا مضت حتى الآن منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية (1945)، وهي فترة طويلة نسبيًّا، وتزيد قليلاً على ضعف الفترة الفاصلة بينها وبين الحرب العالمية الأولى، والتي لم تتجاوز العشرين عامًا (1919- 1939)، ومع ذلك فلم ينعم العالم بالطمأنينة، والهدوء، والسلام الذي كان يُفترض أن ينعم بها في غياب مثل هذه الحروب، بل على العكس من ذلك، فإن جميع الحقائق الموثَّقة تؤكّد أن العالم لم يشهد على مر تاريخه فترة أكثر توترًا، وأشد اضطرابًا، وأعظم قلقًا ممّا يشهده الآن.. ترى ما هي الأسباب؟!. ولكي نعرفَ الإجابة عن هذا السؤال، لابدّ لنا من أن نطرحَ سؤالاً آخرَ، ونعرف إجابته أولاً، ذلك أننا لو أعطينا مجرمًا، أو معتوهًا، أو إنسانًا فاقدَ الضمير والمكوّنات النفسية والعقلية السويّة أداةً حادّةً -ولتكن سكينًا مثلاً- ثم أعطينا نفس الأداة لإنسان متحضّر، سليم التكوين النفسيّ والعقليّ والأخلاقيّ، فما هو التصرّف المنتظر، أو السلوك المتوقّع من كلٍّ منهما بحكم منطق الأشياء؟!. لا أظنُّ أنَّ أحدًا يمكن أن يواجه صعوبة تُذكر في الإجابة عن مثل هذا السؤال البسيط، حيث من البديهي أن الشخص الأول سوف يرى في السكين أداة تصلح للقتل، أو على الأقل للتهديد والابتزاز، وفرض السيطرة، وتحقيق الانتصارات الكاذبة على غيره من العزل الأبرياء، بينما سيجد الثاني لنفس الأداة العديد من الاستخدامات المفيدة، وسيستعين بها حتمًا في صنع أشياء نافعة له وللآخرين. والمعنى الذي قصدت أن أوضّحه هنا عبر هذا المثال، هو أن الإنسان وحده هو المسؤول، والفاعل الحقيقي لكلِّ ما أصاب ويصيب حياته من فساد. وبالطبع فإن الإنسان الذي أقصده هنا هو ذلك الذي أشرت إليه قبل قليل، والذي لم يستطع أن يرى للسكين من وظيفة سوى كونها أداة للقتل، والتهديد، والابتزاز. وهذه -للأسف- هي إحدى النتائج الطبيعية، والنهاية المنطقية لتفشي ظاهرة الزعامات الانتهازية المزيّفة بشكل لافت للنظر في هذه الأيام، وعلى الأخص خلال الفترة التالية للحرب العالمية الثانية. حيث إن مثل هذه الزعامات الفجّة قد تعرف طريقها جيدًا إلى اغتصاب السلطة من أصحابها الشرعيين، ولكنها لا تكون حائزة بالضرورة لمؤهلاتها، بل وغالبًا ما تكون هذه الزعامات الطفيلية مفتقرة -كل الافتقار- إلى ما تتطلّبه السلطة من خبرة، وحنكة، وتجربة، بل وإلى الحكمة التي تستوعب أبعاد القيادة، ومسؤولياتها المحلية، والدولية، والإنسانية. وكما هو معروف للجميع، فإن مسرح الأحداث والتاريخ المعاصر، زاخر بالأمثلة والنماذج الشاهدة على صحة ما ذهبت إليه، وبدرجة يصعب على أيّ إنسان حصرها، لذلك سوف أستعرض هنا واحدًا من هذه النماذج، مراعيًا في اختياره أن يكون ذا صلة وثيقة بمنطقتنا هذه، وتأثير على حاضرنا ومستقبلنا، علاوة على استيفائه للشروط المؤهلة لأن يكون نموذجًا مثاليًّا لتلك السلوكيات التي أسهمت بقسط وافر في خلق جو التوتر الذي أدّى إلى تعكير صفو السلام الدوليّ، وإحلال القلق محل الطمأنينة، وهدر طاقات الشعوب، وإمكاناتها، وثرواتها المادية والبشرية، فيما لا مبرر له، ولا طائل من ورائه. فنحن نعلم بالطبع أن جماعة من رجال الدين الإيراني بزعامة الخميني، تمكّنوا في عام 1979 من الاستيلاء على سلطة الحكم في بلادهم، وبغض النظر عن اتفاق أو اختلاف الآراء حول حقيقة توجهات هذا النظام الجديد، فقد هبّ العالم العربي والإسلامي لدعم هذا النظام وتأييده ومساندته ضدّ أي عدوان خارجي محتمل، على أساس أنه في النهاية نظام إسلامي لدولة إسلامية، خاصة وقد زعم رجال هذا النظام -وقتئذٍ- أنّهم مستهدفون من قِبل القوى العظمى، نظرًا لانحيازهم إلى جانب دول المنطقة، ولأنهم معنيون بتصحيح الموقف الإيراني من القضايا العربية والإسلامية الذي كان سائدًا في زمن الشاه، وفي مقدمتها قضية الشعب الفلسطيني، وتحرير القدس، والعلاقات الإيرانية الإسرائيلية في ذلك الوقت. ادّعاءات زائفة والواقع أنه لم يمضِ وقت طويل قبل أن تتعرّى الخدعة، وينكشف زيف ادّعاءات النظام الخميني، حيث سرعان ما تبيّن أن القوى الكبرى لا تناوئ هذا النظام على الإطلاق، بل كانت تتسابق وتتنافس على مساعدته، وتزويده بكلِّ ما يحتاج من مساعدات بمختلف أشكالها، كما تبيّن أيضًا أن إسرائيل هي الحليف المفضّل، والخفيّ لهذا النظام، والمورّد الأوّل للسلاح، والنصائح العسكرية، والتخريبية، وحلقة الاتِّصال الفعَّالة بينه وبين معظم الدول المنتجة والمورِّدة للسلاح. كذلك فمنذ الأيام الأولى لعهد القيادة الخمينية المظلم، بدأ رجال الحكم الإيراني الجدد تفرّغهم الكامل، وتركيز جهودهم وطاقاتهم لتنفيذ أكبر مذبحة بشرية، وواحدة من أبشع الجرائم التي عرفها التاريخ القديم والحديث، وأكثرها قسوة على الإطلاق. وذلك بهدف القضاء على خصومها، والتخلّص من رفاق السلاح الذين كانوا لها بمثابة السند والعون الفعّال، بل ورأس الحربة في العمليات التي مكّنتهم من السلطة، حتى لا يبقى منهم في النهاية من يطالب بنصيبه من غنيمة الحكم لقاء ما قدموه في سبيله من ضحايا وتضحيات. ولنا أن نتصوّر مدى بشاعة ودموية النظام الخميني هذا، وما يتّسم به رجاله من قسوة مفرطة، وفقدان تام لكل المشاعر الإنسانية في سبيل تحقيق مصالحهم الخاصة، وأطماعهم على حساب شعبهم المغلوب على أمره، وذلك إذا علمنا أن عدد الذين تم إعدامهم فعلاً من أفراد الشعب الإيراني خلال الأشهر الأولى من قيام النظام الخميني قد بلغ اثنى عشر ألفًا في أكثر التقديرات تحفظًا، بينما بلغ هذا العدد طبقًا لتقديرات منظمة «مجاهدي خلق» التي تملك الوسائل الفعّالة للاطّلاع على أدقّ أسرار ما يجري داخل هذا البلد المنكوب، أكثر من ستة وخمسين ألف إيراني وإيرانية. سلوك دمويّ ونتيجة لهذا السلوك الدمويّ الفوضويّ من جانب السلطة الرسمية، كان طبيعيًّا أن تنطلق شياطين الشر من عقالها، حيث اندفعت الجماعات والمنظمات المتعطشة للانتقام في سباق مجنون للفتك بخصومها القدامى، والمحدثين على السواء، وتصفية ما بينها وبينهم من حسابات ثأرية قد يرحع بعضها لأسباب سياسية، بينما يرجع البعض لأسباب اجتماعية طبقية، في حين كان النصيب الأوفى من هذه الأسباب للأحقاد والخلافات المذهبية. ولأن المجال لا يمكن أن يتّسع لتتبّع كل التفاصيل المتعلقة بممارسات القيادة الإيرانية الخمينية، إضافة إلى أن هذه الممارسات أصبحت قصة يومية معروفة فعلاً من كثرة تداولها، ليس على مستوى المنطقة العربية والإسلامية فقط، وإنما في العالم كله؛ بسبب غرابتها التي تلفت الأنظار، وتثير مزيجًا من الدهشة والسخرية والاشمئزاز، ولكن.. حتى لا يكون الحديث مبتورًا، فلابد أن نعرِّج على هذه الممارسات، ولو بشكل سريع ومختصر، حتى لو اقتضى الأمر أن نتغاضى عن بعض الأحداث غير ذات الأهمية الكبرى. لقد خلق الوضع الفوضويّ الذي واجهته القيادة الإيرانية بعد أسابيع قليلة، أو شهور من قيامها، مطلبًا ملحًّا وهدفًا أساسيًّا يتمثل في ضرورة الإسراع بإيجاد الوسيلة المناسبة للتخلّص من المأزق الذي صنعته بنفسها، عندما أشعلت فتنة الصراع الدمويّ بين أفراد الشعب الإيرانيّ، ممّا أدّى إلى إفلات الزمام من بين أيديها، (وللمعلومية -فقط- فإن بعض الجماعات الإيرانية مازالت تعمل وتتصرّف حتى الآن بصورة مستقلة تمامًا عن القيادة، ودون علم هذه القيادة أو مشورتها، وإن كانت الأخيرة قد دأبت على أن تسارع بإعلان مباركتها لتلك التصرّفات غير المسؤولة، والضارة في غالب الأحيان بمصالح البلاد، وذلك بهدف احتوائها من جهة، ولكي لا يعرف العالم أنها «أيّ السلطة الرسمية» غير مسيطرة على الأمور من جهة أخرى). وللخروج من ورطتها، ولصرف انتباه الشعب الإيراني عن عجزها وفشلها التام في تحقيق أيّ إنجاز داخلي، وأخيرًا وليس آخرًا لاستنزاف أكبر قدر من طاقة الفئات والقوى المتناحرة، لجأت القيادة الإيرانية الخمينية إلى أسلوب جديد في العمل عبر خطة إستراتيجية بالغة الخبث والدهاء، ترتكز على محورين أساسيين: أولهما هو الذي عرف بـ»تصدير الثورة»، والثاني بافتعال المشكلات الخارجية، والصراعات الوهمية، وخاصة مع القوى الكبرى، على أن يتم ذلك في إطار من الحرص والحذر الشديدين، بحيث لا تصل الأمور إلى مرحلة الصدام الفعلي (تمامًا كما كان يفعل المستر جون فوستر دالاس وزير خارجية الرئيس الأمريكي السابق ليندون جونسون، عندما كان يمارس هوايته المفضلة المعروفة بـ»حافة الهاوية»). ومعلوم أن اختيار القيادة الإيرانية الخمينية قد وقع، ولأسباب عديدة لا مجال لذكرها، على العراق ليكون محك التجربة الأولى لمشروعها الخاص بتصدير الثورة، ولكن خاب أملها عندما فوجئت بردِّ الفعل العنيف من جانب العراق، والذي لقنها درسًا قاسيًا لم تكن تتوقّعه على الإطلاق، بل وربما لم يخطر على بال مستشاريها الصهاينة، الأمر الذي أذهل القيادة الخمينية، وأطار صوابها، فأخذت تتصرّف تصرفات عشوائية طائشة، وتعالج الخطأ بأفدح منه، بحيث بات موقفها شديد الصعوبة والتعقيد، فلا هي بقادرة على حسم الحرب لصالحها، ولا هي تملك الشجاعة الكافية لقبول مساعي السلام، ووقف الحرب. أرقام مؤكّدة إن الأرقام المؤكّدة تشير إلى أن عدد قتلى الحرب من الجانب الإيراني وحده زاد حتى الآن على الستمئة ألف إنسان، (نُشر هذا المقال في 27/5/1408هـ - 16/1/1988م)، وأن الذين شرّدوا من ذلك البلد المنكوب، وهاموا على وجوههم في شتّى أنحاء الأرض لا يقل عددهم عن أربعة ملايين شخص، كما قدرت الجهات العليمة المتخصصة قيمة الخسائر المادية المحققة على كلا الجانبين -حتى الآن- بأكثر من ثلاثمئة مليار دولار.. ومع ذلك فما زلنا نرى القيادة الإيرانية الخمينية تواصل رفض مساعي السلام، وتعلن بكلِّ الصلف والغرور والتبجح أنّها لن توقف الحرب قبل أن تحقق هدفها.. ترى ما هو هذا الهدف الذي يستحق في نظر القيادة الخمينية كل هذا العذاب والخراب والدمار؟ إنّه إسقاط الحكومة العراقية..! فهل بعد هذا سفه؟ وهل بعد هذا جنون؟!. تقرير سياسيّ وقبل أن أختم حديثي هذا، الذي أعتزم استكماله فيما بعد -بحول الله- أودُّ أن أعرضَ هنا نموذجًا ممّا تناقلته مؤخرًا وكالات الأنباء العالمية حول النظام الخميني وزعيمه، وهو عبارة عن تقرير كتبه أحد المستشرقين من خبراء التحليل السياسي غير المسلمين حيث يقول: «إن زعيم إيران الحالي الإمام الخميني، قد انتهك مناسك الحج عندما أمر الإيرانيين المسلّحين بالقيام بمظاهرات سياسية في مدينة مكة المكرمة، في موسم الحج الماضي. وأضاف المستشرق/ إيفو بيلاييف إن الإمام الخميني عدو للديمقراطية، ويفرض سيطرته على الشعب الإيراني».. واتّهم الزعيم الديني الإيراني بعدم الإلمام بقضايا الاقتصاد السياسيّ، والعلاقات الدولية، وقال: «إن المشكلات الاقتصادية والاجتماعية لم تشغل بال الخميني يومًا من الأيام».. ثم أشار إلى وصية الخميني حول قراره بضرورة مواصلة الحرب حتى بعد وفاته. وحول موقف الخميني السياسيّ من إسرائيل يقول المستشرق المذكور: «إن الزعيم الروحاني الإيراني يُعدُّ عدوًّا لإسرائيل، ولكن من خلال الكلمات فقط، إذ إن استيراد إيران من الأسلحة على مدى السنوات الأخيرة يعتمد اعتمادًا كبيرًا على إسرائيل»، مشيرًا إلى اللقاء الذي تمَّ في جنيف في أغسطس الماضي بين كل من أحمد الخميني من جهة، والإسرائيليين والأمريكيين من جهة أخرى. كذلك عبّر المراقب المذكور عن دهشته البالغة من دعوة الخميني للأطفال الإيرانيين للانخراط في القتال على جبهات الحرب مع العراق، موضّحًا أن معظم الذين يتم إرسالهم إلى تلك الجبهات هم من الأحداث الذين تبلغ أعمارهم الثانية عشرة فما فوق، وسخر من فتوى الإمام الخميني المتعلّقة بانخراط الأحداث في القتال دون الرجوع إلى ذويهم، وإيهامهم بأن المفاتيح المعلّقة في رقابهم ستؤدّي بهم مباشرة إلى الجنة..! وللحديث بقية..
مشاركة :