«سقراط» لروبرتو روسليني: تأمل ذاتي حول فكرة الموت

  • 1/13/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

ما هو القاسم المشترك بين سقراط وباسكال وديكارت؟ الجواب بسيط: كلهم فلاسفة. فماذا إذا أضفنا إليهم أعمال الرسل واستيلاء لويس الرابع عشر على السلطة والعصر الحديدي؟ هنا، لا يعود الجواب بسيطاً، بل سيضحي محيّراً، بالنظر الى أن من يُفترض به أن يجيب سيعجز عن إيجاد ذلك القاسم بين فلاسفة ودين ومرحلة تاريخية. لذا سنسهل الجواب: القاسم المشترك هو أن هؤلاء جميعاً شكلوا المواضيع التي اختارها – بين أخرى – المخرج السينمائي الإيطالي الكبير ومؤسس الواقعية الجديدة في سينما بلده، روبرتو روسليني، ليحقق عنها شرائط تلفزيونية، إنما دائماً بأساليب ولغة سينمائية، منذ قرّر أواسط سنوات الستين من القرن الفائت، التوقف عن العمل للسينما، والانصراف الى وسيلة العرض التي كانت بدأت تعيش أوج ازدهارها في ذلك الحين: التلفزيون. ونختار هنا، من بين أكثر من دزينة من شرائط حققها روسليني للشاشة الصغيرة، ذلك الفيلم المميز الذي حققه عن سقراط في العام 1970، بعدما كان تمكن من أدواته الجديدة، ليُعرض أول ما يعرض من على شاشة التلفزة الإيطالية في جزءين بعدما كان شارك – كعمل سينمائي على أية حال – في مهرجان البندقية، إنما خارج المسابقة، ونال اهتماماً كبيراً، كما دارت من حوله تساؤلات حول «سيّد السينما» الذي بدأ يتّجه في شكل جديد الى منافسها الرئيسي في ذلك الحين، أي التلفزيون. > في ذلك الحين، تعمّد روسليني أن يجعل من فيلمه الجديد هذا عملاً تعليمياً، من دون أن يخوض فيه تجريبية سينمائية أسلوبية كان الموضوع، على أية حال، يتيحها له، وربما سيدنو منها في فيلميه التاليين عن فيلسوفين آخرين: «بليز باسكال» (1971 - 1972) الذي أنتجه بنفسه، ثم «ديكارت» بعد ذلك (1973 - 1974). ومن هنا، بسبب البعد التعليمي الذي أراده روسليني لفيلمه، لم يتّسم الفيلم بأية تجديدات في لغته السينمائية. غير أنه كان ذا جدة بالنسبة الى العمل التلفزيوني، لا سيما في مجال التعامل غير المسبوق تماماً تلفزيونياً مع الديناميكية التي يتيحها المونتاج (التوليف)، وهي ديناميكية تجديدية خاضها روسليني محرراً عمل الشاشة الصغيرة من جمودية كانت التقنيات لا تزال تجبره عليها. غير أن روسليني لم يتمكن، في المقابل، من تحرير العمل من الإفراط في الحوارات، الى درجة أن بعض النقاد تساءلوا عما إذا كان المخرج السينمائي الكبير يعتقد أنه يحقق عملاً إذاعياً!. > غير أن هذا لم يكن، على أية حال، مهماً، أمام واقع أن روسليني قد عرف كيف يغزو الشاشة الصغيرة، منذ ذلك الحين، بعمل فكري ما كان أحد ليحلم له بأن يصل، لو عُرض سينمائياً، الى أكثر من بضعة آلاف من المتفرجين، فيما يتيح له العرض التلفزيوني أعداداً لا حصر لها من المتفرجين. صحيح أن سقراط كفيلسوف، وكرائد في الفكر الإنساني ومعرفة الذات، كان معــروفــاً في طول أوروبـا وعرضها، إذ إنه وأفكاره، يُدرّسان منذ الصفوف الأولى في المدارس، وأن «عبارته» الشهيرة «إعرف نفسك بنفسك» كانت دائماً على كل شفة ولسان. لكن المهم هنا، أن سقراط الذي كان «فكرة»، صار هنا «صورة»، صورة لم تعد لتبرح أذهاناً كثيرة في أنحاء عديدة من العالم منذ ذلك الحين، بخاصة أن الفيلم التلفزيوني راح يعاد عرضه مرات ومرات في إيطاليا، لكن أيضاً من على شاشات صغيرة أخرى في أنحاء عديدة من العالم. > إذاً، حتى وإن كان النقاد اتهموا الفيلم بأن ليست فيه لحظات صمت تمكّن المشاهد من التفكير، عرفوا في المقابل كيف يثنون على عمل عرف، ليس فقط كيف يصوّر مراحل أساسية، لا سيما منها المراحل الأخيرة من حياة كبير فلاسفة البشرية في العصور الإغريقية، لكن كيف يصوّر أفكاره أيضاً، وكيف يثير من التعاطف معه، ما يدفع المتفرجين الى تبنّي ديموقراطيته وعقلانيته وانفتاحه على أفكار التقدم، بدءاً من تدخله، المبرر في الفيلم على الأقل، في شؤون بلده السياسية. وطبعاً لا بد من الإشارة هنا، الى أن التزام الفيلم بفكر سقراط، أو على الأقل بهذا التصوّر القويم للفكر السقراطي، جاء، قبل السجالات الحديثة حول سقراط، والتي راحت تصوّره على الضد من صورته القديمة، كمشتغل ضد الديموقراطية الشعبية في أثينا... وهذه على أية حال حكاية أخرى، لم تكن واردة على مثل هذه الحدّة الفكرية – السجالية يوم حقق روسليني ذلك الفيلم الذي كتبه بنفسه مستنداً أساساً الى مصدرين مرجعيّين هما «الحوارات السقراطية» لأفلاطون، و «سير الفلاسفة» لديوجين اللائرسي. > تبدأ أحداث الفيلم مع نهاية الحروب البيلوبونيزية التي كانت قد دامت ثلاثين عاماً، في العام 403 ق. م. وانتهت بإلحاق الإسبارطي ليساندر الهزيمة بأثينا فارضاً عليها حكم الطغاة الثلاثين الذين حكموها تحت حماية فرقة من الجنود الإسبارطيين. وكان من بين هؤلاء الثلاثين، كريتياس الذي سبق له أن تتلمذ على سقراط، ما أهّله لمعرفة كل شيء عن حقيقة أفكار هذا الأخير، وبالتالي اتهامه بعدم اتباع القوانين الجديدة المفروضة. وهنا، عُرِّض سقراط لتجربة مريرة، إذ أُمر بأن يتولى مع أربعة آخرين القبض على معارض للدولة، لكنه رفض، وحين قال له رفاقه أن هذا الرفض جنون، أجابهم: «أحياناً، يجدر بالمرء أن يكون مجنوناً»، ثم عاد الى بيته في خطوات واثقة. بعد ذلك، أتى سقوط حكم الطغاة ما أنقذ حياة سقراط وأعاده داعية للديموقراطية، حيث راح يجوب الشوارع ناشراً فلسفته وتعاليمه بين الشبيبة. غير أن فكرة الموت كانت هنا مسيطرة عليه، كما تشهد الحوارات التي نقلها أفلاطون... لكن الموت كان، بالنسبة الى سقراط، مجرد انعتاق. > والحقيقة، أن تركيز روسليني على هذه الفكرة في هذا القسم، سيكون التمهيد الطبيعي المفسّر لاحقاً للغز هذا الفيلسوف الذي نجده، إذ اعتقله «الديموقراطيون» هذه المرة بتهمة إفساد الشبيبة، وحين يحكم عليه بالموت متجرعاً السمّ، يقبل الحكم وتنفيذه رافضاً من ناحية فرصة الهرب التي أتيحت له، ومن ناحية ثانية فكرة التراجع أمام المحكمة عما كان اتهم بالإيمان به، أي عبادة آلهة غير آلهة المدينة ودعوته الشباب الى اقتفاء أثره. كان من الواضح أن الموت لا يخيفه، بل إنه، على العكس من هذا، يجذبه... حيث نراه في لحظة حاسمة يقول أمام خلصائه: «إما أن يكون الموت نوماً أبدياً، وإما أنه هجرة للروح الى مكان تنعم فيه بالسكينة والنعمى. وفي الحالين، ليس ثمة ما يخيف إذ يحل وقت الرحيل. أنا أموت... أما نحن فنعيش...». > يتلو هذا تأجيل تنفيذ الحكم شهراً، بدلاً من تنفيذه في اليوم التالي وفق الأصول، بالنظر الى أن مركب الموت لم يكن معداً بعد. وطوال ذلك الشهر، في بعض أجمل مشاهد الفيلم وأقواها، يواصل خلصاء سقراط محاولة دفعه الى سلوك درب تنقذه من الموت لكنهم يفشلون، فهو قرر أن يسير نحو مصيره بنفسه وبكل رضى... وهكذا ينتهي الفيلم على تجرّعه السمّ. > كان يحلو لروسليني (1906 - 1977)، أن يقول أن فكرة هذا الفيلم قد عاشت معه طوال عشرين عاماً، وكان في البداية يريد أن يجعل منه عملاً سينمائياً خالصاً، علماً أنه أكد دائماً أنه يعتبره فيلمه الأكثر ذاتية، ليس فقط لأنه يعتبر عمله في السينما صورة من عمل سقراط في الفلسفة، وأنه كان بالنسبة الى شبيبة السينما في إيطاليا، ذا نفوذ وتأثير يماثلان ما كان لفلسفة سقراط على شبيبة أثينا، بل لأن هذا الفيلم هو واحد من أكثر أعماله تمكيناً له من التعبير عن تجربة الموت والتأمل في هذا المصير الحتمي. «كنت أضع من هذا التأمل نتفاً من العديد من أعمالي السابقة، كان روسليني يقول، أما هنا، فقد كرست الفيلم كله لهذا التأمل». ونعرف أن روسليني حقق منذ أواسط سنوات الثلاثين، عدداً كبيراً من الأفلام السينمائية ثم التلفزيونية. ومن أشهر أفلامه: «روما مدينة مفتوحة» و «ألمانيا العام صفر» و «باييزا» و «تحيا إيطاليا» و «رحلة الى إيطاليا» و «فانينا فانيني» و «الجنرال ديلا روفيري» و «سترومبولي».

مشاركة :