يضحك الحزبيون الذين ربحوا في العراق ويبكي الشعب الذي خسر سمعته الانتخابية وثقته بنفسه معا بعد أن سلم رقبته لمَن لف عليها حبل هزيمة لا تُنسى. خسر الشعب الانتخابات التي ربحها الحزبيون. كانت الديمقراطية على مرمى حجر. أو هكذا خيل إلى الكثيرين ممَن قرروا أن لا يقعوا في الخطأ الدوري الذي أذاقهم مرارة التعايش مع الأحزاب بميليشياتها التابعة للحرس الثوري الإيراني عبر العشرين سنة الماضية. كانت إيران حاضرة في الذهن الشعبي وكانت هزيمتها في العراق هدفا ذهبيا لغالبية تحلم بإستعادة وطنها. ولأن الدائرة السياسية كانت ضيقة منذ أن سقطت الديمقراطية بالمظلات الأميركية على أرض الرافدين فقد اختار الشعب في الانتخابات التي جرت قبل سنة أن ينصر طرفا على أطراف أخرى بحثا عن فساد أقل. على الأقل فقر أقل. من حق العراقيين أن يبحثوا عن بلد آمن تكون فيه الأوضاع المعيشية لكل مواطنيه لا بأس بها فالدولة لا يمكنها أن تخفي ثراءها في ظل موازنات مالية انفجارية غير مسبوقة. من حقهم أن يحلموا بـ"عيشة الأوادم" بعد عشرين سنة حالكة ازدادت فيها أعداد الفقراء وارتفع منسوب الفقر من غير أن يرى البلد قيام أي مشروع تنموي كما هو الحال في دول العالم الثالث. نصرت القلة التي ذهبت إلى الانتخابات مقتدى الصدر على خصومه. لا لأنها صدقت وعوده في الإصلاح والحكم الوطني ومحاربة الفساد، بل بحثا عن حالة يكون فيها الفساد تحت السيطرة وتكون العلاقة بإيران هي الأخرى تحت السيطرة. غير أن الصدر خذل ناخبيه حين سلم أصواتهم إلى خصومه وذهب سالما إلى بيته من غير أن يوضح شيئا، سوى تلك الإنشودة المملة عن الفساد والفاسدين الذين ما كان لهم أن ينتصروا عليه لولا أنه ألقى أسلحته وغادر أرض معركة لم تقع. ترك الصدر الشعب يندب حظه بعد أن ذهبت أصواته إلى أعوان نوري المالكي الذي يعتبره الكثيرون أسوأ شخص في تاريخ الحكم منذ أن تأسست الدولة العراقية قبل مئة سنة. خسر الشعب أوراقه كلها وبات عليه أن ينتظر ما الذي سيفعله المالكي منتقما وراء قناعه محمد شياع السوداني الذي لن يكون سوى تابع للأحزاب والميليشيات وزعمائها وفي مقدمتهم نوري المالكي. وإذا ما كان البعض قد خفف من مسألة انتماء رئيس الوزراء الجديد إلى حزب الدعوة باعتباره جرى لأسباب عائلية وليس لدواع عقائدية فإن ذلك القول يمكن الرد عليه انطلاقا من حقيقة أن كل الحزبيين في العراق هم كذلك وليس السوداني استثناء من ذلك. غير أن حقيقة أن السوداني كان إلى وقت قريب يدين بالولاء الحزبي إلى زعيمه المالكي هي ما يجب أن توضع في الحسبان دائما. وهو ما يدرك الشعب العراقي عواقبه الخطيرة. ترى ما الذي يقوله الصدر الآن لشعب أصر أن يكون جاهلا مثلما وصفه الصدر نفسه ذات مرة؟ لا معنى أن يُقال أن الصدر لم يحترم وعوده في ظل عدم احترامه للشعب الذي وضعه في صدارة المنتصرين. لقد صعد إلى المسرح ونزل منه متحججا بأنه لا يرغب في أن يمد يده إلى الفاسدين. ذلك عذر أقبح من ذنب كما يُقال. فالشعب يعرف جيدا أن الصدر هو الآخر قاد مجموعات فساد اخترقت الدولة بالطول وبالعرض واستفاد من فسادهم. كل الوزارات التي كانت من حصة التيار الصدري عبر السنوات الماضية كانت هي الأكثر فسادا دائما. غير أن الصدر كان ممثلا بارعا على المسرح حين أتقن دور المستسلم لمزاجه الثوري العنيف الذي يضرب على أوتار الشخصية العراقية متقلبة المزاج. انتخب العراقيون الصدر وهم يعرفون أنه رجل جاهل بالسياسة وأن هناك اتفاقا أميركيا إيرانيا على استبعاده أو على الأقل تحجيم دوره السياسي. في وقت قياسي بين نصره وهزيمته كان الصدر قد وضع كل أسلحته على الطاولة وبدا ضعيفا في مواجهة أية ضربة إيرانية، حتى لو كانت لا قيمة لها. وكما يبدو فإنه كان ينتظر تلك الضربة لكي يتخلى عن الشعب الذي انتخبه ويعلن اعتزاله السياسي. وهو اليوم لا يُخيف أحدا. يعيش العراقيون اليوم وضعا سياسيا رثا، حاولوا أن لا يصلوا إليه عن طريق إزاحة ممثلي إيران عن المسرح غير أنهم ضحكوا على أنفسهم حين توهموا أن الصدر سيكون وسيلتهم في تحقيق ذلك الهدف.
مشاركة :