لم يكن مارتن كوبر المهندس الأمريكي، وهو يخترع أول هاتف محمول في العالم 1973، يتوقع أن يحدث اختراعه كل هذا التحول الكبير في حياة الإنسان، فهذا الشيء الصغير العجيب الذي غزا كل جهات العالم، في وقت قياسي - إذ بحلول منتصف العام المقبل سيطفئ الشمعة 50 من عمره - نجح في تغيير نوعية الحياة ونمط عيش الإنسان المعاصر، بشكل لا رجعة فيه. ظهر هذا الاختراع الذي غير مفهوم الاتصال عبر العالم، بعد مرور نحو قرن من الزمن، على ابتكار الهاتف الثابت، على يد الاسكتلندي جراهام بيل 1876. وإن كان المؤرخون يشككون في هذه الرواية السائدة، بنسبتهم حقوق ملكية فكرة الهاتف إلى أنطونيو ميوتشي المخترع الإيطالي 1856. وجاءت فكرة الهاتف المحمول من كوبر، المهندس في شركة موتورولا، كرد فعل على تزايد شعبية هواتف السيارات، التي تتطلب البقاء سجين السيارة لاستخدام الهاتف. الهاتف النقال في بداياته الأولى لم يكن "ذكيا"، كما أن شكل الأول غير مساعد على كثرة الاستخدام، فقد كان ثقيلا "910 جرامات"، كما أنه طويل الحجم "25 سنتيمترا"، علاوة على ضعف بطاريته التي تعمل نصف ساعة فقط، مقابل عشر ساعات قصد إعادة الشحن. فرضت خدمة التجوال - الاتصال بين الدول - التي انطلقت 1987 على الهاتف المحمول التطور بشكل سريع. هكذا بدأت المزايا التحسينية تظهر تباعا، بابتكار خدمة الرسائل النصية 1994، ثم ظهور نغمة رنين، كأول محتوى قابل للتنزيل، على الهاتف 1998. عام بعد ذلك، يدمج متصفح لاستخدام الإنترنت في الهاتف، ليظهر أول محمول يحتوي على الإنترنت. عام 2000 ينجح اليابانيون في صناعة أول هاتف مزود بالكاميرا. شكل اختراع الشاشة المستطيلة التي تعمل باللمس 2007 محطة مفصلية في مسيرة الهاتف النقال، فحينها شرع كثيرون حول العالم في التخلص من أشياء عديدة لازمتهم ردحا من الزمن، كما رافق أباءهم وأجدادهم من قبل. هكذا بدأ الناس التخلص من الاشتراك في خدمات الهاتف الثابت والبريد الفعلي والجرائد وأجهزة الراديو وأشرطة الموسيقى والكاميرا والخرائط والمذكرات.. وحتى أجهزة الحواسيب. نجح المحمول بصيغته الذكية، مع بداية العقد الثاني من 21، في صياغة معالم حياة أخرى، فهذه الأجهزة الذكية التي تتسع لها الجيوب، أعادت تشكيل طريقة تعامل الإنسان مع العالم، كما صاغت علاقتهم بأنفسهم وبالآخرين، بدءا من الأنماط التواصلية وصولا إلى الأساليب التعبيرية. يوما بعد آخر، يطور الهاتف الذكي نفسه ما جعل دائرة الخدمات التي يوفرها في اتساع دائما، حيث تعدى نطاق الخدمات البسيطة المرتبطة بتلقي الاتصالات وإرسال الرسائل، نحو خدمات جديدة، من قبيل متابعة آخر مستجدات الأخبار، حسبما تختار سواء من حيث المواضيع أو المجال أو الجغرافيا... وما إلى ذلك من تحديدات لا متناهية، والاستماع للأغاني ومشاهدة الأفلام والمباريات الرياضية، وتحصيل المعارف والمعلومات حول أي موضوع قد يخطر على بال، وتولي عمليات البيع والشراء دون مغادرة البيت، وحتى القيام بالمعاملات البنكية دون الحاجة إلى زيارة الوكالة البنكية. تبدو ثورة الهاتف النقال أشبه بمن يوقد نارا، دون أن يعرف إلى أي مدى ستكون ضخمة، فقد تولى هذا الشيء العجيب تدريجيا إعادة هندسة حياة الأفراد والمجتمعات بشكل جذري. نعم الأمر كذلك وزيادة، ففي جيب الواحد منا هاتف اتصال وتواصل، كما يحمل معه أيضا ذكريات وصورا وكتبا وجرائد وأقارب وأصدقاء وأموالا... وذهب أحدهم إلى اعتبار النقال بيتا جديدا للإنسان، فعلى الرغم من صغر مساحته "30 سنتيمترا مربعا" تبقى عوالمه رحبة ولا متناهية. علاوة على أن الزمن الذي يقضيه خارج هذا البيت قليل قياسا بزمنه اليومي، حتى أضحت أنشطة الحياة التي "تعاش" داخل الهاتف أكبر من تلك التي تنجز على أرض الواقع، فجل الأنشطة الإنسانية متاحة، من تعليم وتسلية وتجارة ورياضة وعمل... ما عدا نزرا قليلا من أساسيات الحياة مثل الأكل والنوم والاستجمام. أكثر من ذلك، أحدث تحولات عميقة في عادات وتقاليد اجتماعية راسخة، دفع نحو تعديلها، فعلى سبيل المثال كان التحدث على مائدة الطعام سلوكا غير لائق لدى كثير من الشعوب، قبل أن يصبح، وعلى حين غرة، عادة شائعة بين الناس، فمعظم الأفراد اليوم يستعملون هواتفهم المحمولة على مائدة الأكل. وكان الكلام في الجنائز أو قاعات السينما أو غيرها من المواقف التي تفرض الصمت عملا مزعجا ومشينا، قبل أن يجعله النقال مباحا وعلى درجة كبيرة من المقبولية. وقلب النظر في ثنائية الحاضر والغائب، فقد أضحى الغائب، بمعية الهاتف النقال، مقدما على الحاضر، الذي ينتظر انتهاء المكالمة الواردة، حتى يتمكن من استئناف حديث قطعه اتصال. غير النقال مفهوم الزمان والمكان حتى انعدمت المسافات، فبفضل الهاتف ولج كثيرين بيوتا غير بيوتهم، وشارك آخرون في حفلات أو رحلات أو لقاءات دون أن يجسدوا حضورهم المادي والفيزيائي. وتقاسم أقلية مع أكثرية في مختلف بقاع العالم لحظات خاصة واستثنائية، لو أرادوا تحقيقها على أرض الواقع، لتعذر عليهم فعل ذلك، لأكثر من سبب. كل هذا قد يحدث، والإنسان مستلق في غرفة نومه أو جالس في شرفة يتأمل منظرا جميلا أو غير ذلك، ما يطرح أكثر من تساؤل حول مفاهيم تقليدية، أطرت حياة الإنسان لقرون وقرون من الزمن. كما قلب ترتيب الأولويات لدى الناشئة اليوم، فالتسلية التي كانت في السابق قصد تزجية وقت الفراغ، غدت اليوم حالة مستمرة، إلم نقل نمط حياة يعيشه الإنسان، فالبرامج والألعاب باتت هربا من الواقع، وسبيلا لنسيان الأوضاع المعيشية، بدلا من أن تكون متنفسا للاستراحة والترويح عن العقل والنفس، بعد جهد وكد وعناء. بشرت ثورة الهاتف النقال بتسهيل الاتصال والتواصل بين الأفراد والجماعات، قبل أن يتأكد مع مرور الوقت أنها تتجه نحو تكريس العزلة، فالمحمول حمل معه سلوكيات سلبية قربت البعيد وأبعدت القريب. واتجهت العلاقات الاجتماعية نحو الأسوأ، فالمشهد فعلا مريب، حين ترى أسرة أو أصدقاء يتحلقون حول طاولة جسديا، أما عقولهم فهائمة في عوالم هواتفهم.. كل واحد يسبح في فلكه الخاص.
مشاركة :