مابين مؤتمر القمة العربية الأولى والتي عقدت بضاحية (إنشاص) بمحافظة الشرقية بالقرب من القاهرة عام 1946م، والقمة العربية التي اختتمت أمس الأول بالجزائر، اختطت المملكة مسارا استراتيجيا واضحا لدبلوماسية القمم العربية ومشاركات التاريخية بها، بلا غياب فضلا عن حضورها القوي والمؤثر، لمعالجة القضايا العربية الثابتة بصفة عامة والقضية الفلسطينية التي تعتبر جوهر الصراع العربي الإسرائيلي بصفة خاصة وتحقيق الآمال العربية والدفاع عن قضايا العرب وتحصين البيت العربي من الداخل. كما عملت المملكة تحت مظلة الجامعة العربية التي تجمع العرب وتنسق المواقف بينها وتعمل على الدفاع لمصالح أعضائها المشتركة على الساحتين الإقليمية والدولية، وبذلت جهودًا كبيرة لتعزيز حضور الجامعة الدولي والإقليمي وانتهاج سياسة التضامن العربي. وجاءت مشاركة المملكة في قمة الجزائر التي عقدت تحت شعار قمة لم الشمل، بنفس القوة والإصرار في القمم السابقة وجسدت كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز والذي، ألقاها نيابة عنه سمو وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان رؤية المملكة حول كيفية إعادة الجامعة العربية في إحداث تغيير في فلسفة صناعة القرار.. وعندما حذر الملك سلمان في كلمته من أن حدة التنافس والصراع الجيوسياسي الدولي في الآونة الأخيرة يُنذر بتقويض قدرة المجتمع الدولي على مواجهة تحدياته المشتركة بفاعلية.. فإن وضع القادة العرب أمام مسؤولياتهم كون قضايا العرب هي مسؤوليتهم وليس مسؤولية القوى العظمي، وهناك قناعة داخل أروقة القمة بضرورة احتضان المملكة القمة القادمة، وهذا ما أعلنه الرئيس الجزائري تبون على وجود توافق عربي على استضافة المملكة الدورة الـ32 للقمة العربية، وهو ما أعلنه وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان، في ختام أعمال القمة. الخطاب الملكي في قمة الجزائر وضع القادة أمام رؤية المملكة تجاه القضايا المصيرية؛ عندما أكد سمو وزير الخارجية أن السعودية تدعم التضامن العربي وإيجاد آليات لمواجهة التحديات المشتركة، وهذا يعني أن المملكة ترغب في التعامل مع قضايا الأمة العربية وفق آليات محوكمة غير تقليدية، تحقق من خلالها آمال وتطلعات الشعوب العربية. كما حدد الملك سلمان أطر العلاقات وتعزيز القيم العربية والحفاظ على القيم الإسلامية، عندما أكد على اعتزاز المملكة بقيمها وعدم السماح للآخرين بفرض قيمهم علينا في رسالة واضحة للقوى الغربية وهذا المحور يتطلب من الدول العربية ضرورة توحيد المواقف لتحقيق غايات العمل العربي المشترك وحماية الأمن القومي العربي بمفهومه الشامل وبكل أبعاده السياسية والاقتصادية والغذائية والطاقوية والمائية والبيئية، والمساهمة في حل وإنهاء الأزمات التي تمر بها بعض الدول العربية، بما يحفظ وحدة الدول الأعضاء وسلامة أراضيها وسيادتها. وجاء ملف إصلاح منظومة الجامعة العربية واضحا وملفتا في كلمة الملك سلمان حيث طالبت المملكة إيلاء هذا الملف أولوية خاصة، وهو الملف الذي ظل غائبا عن نتيجة خلافات بين بعض الدول الأعضاء. ومن المؤكد أن لدى المملكة تصوراً لإصلاح وتطوير جامعة الدول العربية تكفل التعامل مع التحديات الجديدة وحالة الاستقطاب الحالية التي يمر بها العالم، وما يتصلّ بها من تداعيات على العالم العربي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وسيتم خلال الأشهر القادمة بلورته لعرضه على قادة الدول العربية في قمتهم القادمة في المملكة، خصوصا أنه منذ الغزو العراقي للكويت وسقوط العراق، والحديث لم ينقطع عن ضرورة إصلاح الجامعة العربية، باعتبار أن غياب هذا الإصلاح كان سببا مباشرا لوصول الوضع العربى إلى نقطة أدنى من الصفر. وقدمت الجزائر رؤية لإصلاح الجامعة تتألف من 5 بنود، ولم تتوفر تفاصيل عنها. وهناك تحفظ لبعض الدول العربية على سياسة الجامعة أدى إلى عدم وفاء هذه الدول بالتزاماتها المالية تجاه الجامعة مما أدى إلى عجز كبير وواضح في الميزانية الخاصة بالجامعة والذي انعكس على مستوى أدائها على جميع الصعد. ولقد واجهت الجامعة الكثير من المشاكل المادية حيث عانت عجزا في الميزانية وخصوصا في السنوات الأخيرة. وحظيت قضية التدخلات الخارجية باولوية في الخطاب الملكي حيث قال سمو وزير الخارجية إن التدخلات الخارجية تحتم تكاتف الجهود لمواجهتها، مؤكداً رفض نهج التوسع والهيمنة على حساب الآخرين، وشدد على عدم السماح للآخرين بفرض قيمهم على الدول العربية. وأمام حالة عدم اليقين وازدياد التوتر في المشهد الدولي اللذين يضاعفان من التحديات غير المسبوقة التي تواجهها الدول العربية، حثت المملكة على تكثيف العمل الجماعي وزيادة وتيرة التنسيق والتعاون والعمل العربي المشترك. قمة الجزائر في مجملها كانت بداية لصفحة جديدة بعد توقف لانعقاد القمم لسنتين بسبب الجائحة وجاء في إعلان الجزائر دعم الدول العربية لسياسة مجموعة "أوبك+"، التي تضم دولًا منتجة للنفط من داخل وخارج منظمة "أوبك"، في سوق الطاقة العالمية، وتثمين السياسة المتوازنة التي انتهجها تحالف «أوبك+» من أجل ضمان استقرار الأسواق العالمية للطاقة واستدامة الاستثمارات في هذا القطاع الحساس ضمن مقاربة اقتصادية تضمن حماية مصالح الدول المنتجة والمستهلكة على حد سواء، إلى جانب التأكيد على ضرورة توحيد الجهود لمكافحة الإرهاب والتطرف بجميع أشكاله وتجفيف منابع تمويله والعمل على تعبئة المجتمع الدولي ضمن مقاربة متكاملة الأبعاد تقوم على الالتزام بقواعد القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، لا سيما في ما يتعلق بمطالبة الشركاء بعدم السماح باستخدام أراضيهم كملاذ أو منصة للتحريض أو لدعم أعمال إرهابية ضد دول أخرى. كما أكد القادة العرب على مركزية القضية الفلسطينية والدعم المطلق لحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، بما فيها حقه في الحرية وتقرير المصير وتجسيد دولة فلسطين المستقلة كاملة السيادة على خطوط 4 حزيران 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وحق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لعام 1948، فضلا عن التأكيد على دعم الحكومة الشرعية اليمنية ومباركة تشكيل مجلس القيادة الرئاسي ودعم الجهود المبذولة للتوصل إلى حل سياسي للأزمة اليمنية وفق المرجعيات المعتمدة مع التشديد على ضرورة تجديد الهدنة الإنسانية كخطوة أساسية نحو هذا المسار الهادف إلى تحقيق تسوية سياسية شاملة تضمن وحدة اليمن وسيادته واستقراره وسلامة أراضيه وأمن دول الخليج العربي ورفض جميع أشكال التدخل الخارجي في شؤونه الداخلية. لقد بزغت فكرة إنشاء الجامعة بعد الحرب العالمية الثانية وتفادياً للمشاكل التي واجهت الدول العربية عام 1945 وكانت تضم في بدايتها (مصر، العراق، لبنان، السعودية، سوريا، الأردن، اليمن) ومقرها القاهرة، وبسبب الاتفاقية التي وقعت بين الرئيس المصري السابق أنور السادات واسرائيل ومعارضة معظم الدول العربية لها تم نقل مقر الجامعة من القاهرة الى تونس، وفي عام 1990 بعد غزو النظام العراقي للكويت عادت الى القاهرة مقرها الرئيس. الجامعة العربية مرآة للوضع العربي العام والمطلوب هو تغيير الفكر السياسي وفلسفة التعامل مع القضايا بعيدا عن النمطية السائدة.
مشاركة :