يمر الانسان بمراحل عمرية مختلفة لكل منها ميزاتها ومواصفاتها، تبدا بالولادة والطفولة ثم الشباب ثم الكهولة والشيخوخة ومن ثم النهاية والاضمحلال. ولا ينحصر هذا القانون الحياتي على الانسان فقط بل ينطبق ايضا على الدول والامبراطوريات، وكما يقول ابن خلدون فان "للدولة اعمار طبيعية كما للاشخاص"، لها مراحل ومسار حياتي يبدا بالقوة وينتهي بالضعف والزوال. فان كانت هذه هي المراحل التي تمر بها الدول والامبراطوريات فان الكيانات السياسية كالأحزاب ليست استثناء عنها. اذا كيف تمكن حزب ينتمي لمنطقة متقلبة سياسيا كالشرق الاوسط من مقاومة هذا القانون الحياتي، ويستمر في النضال ست وسبعين سنة متنقلا بين نضال مسلح ونضال سياسي، يقود كليهما بنفس القوة والتأثير، ويجدد نفسه في كل مرحلة حسب ما تمليه عليه ظروفها، ليقود شعبا لا يمتلك دولة، محاطا بدول تناصبه العداء وتتأمر عليه للقضاء على اي طموح سياسي له؟ قد يكون السبب الرئيسي لبقاء وديمومة الحزب الديمقراطي الكردستاني طوال العقود الماضية هو طبيعة الشخصيات التي قادته في مراحله المختلفة. فقد اتسمت تلك الشخصيات بالوضوح والصدق والقوة وعمق جذورها في المجتمع الكردستاني، مما جعل كل فرد كردستاني، حتى وان لم ينتمِ لهذا الحزب، يشعر بان هذا الحزب هو حزبه، يعبر عن امانيه ويتطلع لتحقيق طموحاته. اضافة الى التواضع والادب الجم الذي اتصفت به هذه الشخصيات والذي تعطي انطباعا للمقابل بانه امام شخوص مميزة تفرض على العدو قبل الصديق احترامها، فالتف الشعب حولها وامدها بحيوية نضالية في كل مراحل الحزب السياسية. اضافة الى ما سبق فان هناك اسباب اخرى جعلت من الديمقراطي الكردستاني حاضرا وبقوة على الساحة السياسية طوال ست وسبعين سنة نستطيع ايجازها في النقاط التالية: - تفرد الديمقراطي الكردستاني من بين جميع الاحزاب الكردستانية والعراقية، بل واحزاب المنطقة، بانه يتقدم صفوف الشعب في الملمات متصديا لها، وفي الوقت نفسه لا يتهرب من تحمل مسؤولية الاخفاقات التي مر بها النضال الكردستاني، كذلك لا يحاول الاستئثار بالانتصارات حتى وان كان هو صانعها. - الاعتدال الذي لازم نهجه منذ بدايات تشكيله، فرغم ان المشكلة الكردية هي مشكلة قومية فرضت نفسها كرد فعل على نشوء دول قومية في المنطقة، الا ان الديمقراطي الكردستاني خلق توازنا بين النضال من اجل الحقوق القومية وعدم الانجراف الى التطرف القومي في ادائه، فلم يتبنى الايدلوجيات القومية المقولبة مثلما فعلت الاحزاب القومية عند بقية الشعوب، بل ظل محافظا على توازنه الانساني الجامع. - لم يحصر الديمقراطي الكردستاني نفسه في حدود الحزبية، بل تجاوزه، فقدم نفسه خيمة جامعة للكردستانيين بكل تياراتهم السياسية، فضم في صفوفه الفكر القومي والفكر الاسلامي والفكر اليساري، ليس من الكرد وحسب بل من كافة مكونات الشعب الكردستاني. ورغم تباين افكار هذه التيارات واختلافها عن بعضها، الا ان الديمقراطي الكردستاني استطاع تطويعها جميعا لخدمة النضال الكردستاني بنفس النظرة المعتدلة التي يتبناها هو، بعيدا عن التطرف الذي تعاني منه تلك الافكار في الاحزاب التي تتبناها، وبذلك تجاوز الديمقراطي الكردستاني حدود كونه مجرد تنظيم حزبي. - نجاحه في كل مراحله النضالية. فمن النادر وحسب التجارب النضالية للشعوب ان ينجح حزب في ادارة النضال السياسي والنضال المسلح على حد سواء. الا ان الديمقراطي الكردستاني استطاع كسر تلك القاعدة، وقاد المرحلتين بنجاح. فبدا نشاطه بالعمل المسلح من خلال الثورة الكردية، وبعد انتصار الثورة وانتقاله الى النضال السياسي اجاد مرحلة ادارة الدولة، وما الاستقرار السياسي والامني الذي يشهده الاقليم الا ثمرة ذلك النجاح. - رغم المؤامرات العديدة التي حيكت ضد الديمقراطي الكردستاني للقضاء عليه من قبل احزاب كردية منافسة وحكومات عراقية متعاقبة وحتى اطراف اقليمية، استطاع الصمود بوجه تلك المؤامرات. فبقي رقما صعبا على الساحة النضالية في المنطقة، بينما تقوقعت الاحزاب الكردية المنافسة وسقطت الحكومات العراقية واصبحت تلك الحكومات الاقليمية التي تامرت عليه من الماضي، مما ادى الى ان زيادة ثقة الشارع الكردستاني به والالتفاف حوله. - اصراره على الاستمرار في النضال رغم الظروف الصعبة. فالديمقراطي الكردستاني هو الحزب الوحيد في المنطقة الذي نجح في اشعال فتيل ثورتين رغم تحديات الظروف الدولية والاقليمية المحيطة به، فبعد محاصرة ثورة أيلول/سبتمبر اقليميا ودوليا بتوقيع اتفاقية الجزائر بين النظامين العراقي والشاهنشاهي، لم يستسلم الديمقراطي رغم ضغوطات الاطراف المتآمرة عليه، فاشعل فتيل الثورة الثانية "ثورة كولان"، مستندا فقط على ايمانه بقضيته ودعم الشعب الكردستاني وتلاحمه معه. - من اخطر المراحل التي يمر بها اي حزب هو وفاة مؤسسه وهو لا يزال يخوض نضالا مسلحا. وقد مر الديمقراطي الكردستاني بتلك الظروف وانتصر عليها. وما زاد من وطأة تلك المرحلة عليه هو ان وفاة قائده الخالد مصطفى بارزاني جاءت والحزب لا يزال يعاني من تبعات مؤامرة اتفاقية الجزائر، وبصدد اشعال فتيل الثورة الثانية "ثورة كولان"، فاستطاع التغلب على تلك الظروف المعقدة والقاهرة، ونجح الرئيس مسعود بارزاني في الحفاظ على ارث الثورة وديمومتها، وقادها بنجاح الى بر الامان. - تمكن الديمقراطي الكردستاني من خلق حالة فريدة في علاقته مع الشعب، والتي لم تكن علاقة نضال فحسب، ولم تكن منحصرة فقط في ايمان الكرد بمبادئ هذا الحزب، بل تشكلت علاقة انسانية بينهما امتدت من بدايات فترة النضال المسلح اربعينات القرن الماضي والى وقتنا هذا، واكبتها ثلاثة اجيال عاشت تفاصيل تلك الايام، بكل ما فيها من ذكريات سعيدة واليمة، بانتصارات وكبوات، خلقت تلك الحالة الانسانية التي يصعب ان تؤثر عليها اية شائبة. - نجاحه في التوازن بين بناء علاقات وطيدة مع دول المنطقة واحتفاظه باستقلالية قراره السياسي.رفرغم حساسية وضع اقليم كردستان مع الدول الاربعة التي تحيط به الا ان الديمقراطي الكردستاني ارسى علاقات ثقة متبادلة مع تلك الدول من خلال دبلوماسية هادئة ازالت كل تلك الحساسيات، وفي نفس الوقت لم تكن تلك العلاقات على حساب استقلالية القرار السياسي للحزب ولحكومة الاقليم، فقد حافظ الاقليم على قراره السياسي ولم يرضخ للضغوطات الاقليمية والدولية رغم تشابك مصالح تلك القوى الاقليمية والدولية وتضاربها في الكثير من الاحيان. والمفارقة هنا انه في الوقت الذي احتفظ فيه الاقليم على استقلالية قراره السياسي فشلت الحكومة الاتحادية التي يفترض ان الاقليم تابع لها في الحفاظ على استقلالية قرارها السياسي وهذا مؤشر اخر على نجاح الاداء السياسي لحكومة الاقليم المتمثلة بالديمقراطي الكردستاني كحزب الاغلبية. - قدرته في الحفاظ على سلمية عمله طوال مسيرته الثورية والسياسية. فليس من السهل على طرف يخوض نضالا مسلحا ان يحافظ على سلمية نهجه خارج ساحة القتال، خاصة ان كان الطرف المقابل له بدموية الحكومات العراقية المتعاقبة. الا ان الديمقراطي الكردستاني لم يلجا الى نفس الممارسات الدموية ضد الشعب العربي في العراق، فلم تقم الثورة طوال سنين نضالها بعملية واحدة ضد مدنيين عرب رغم قدرتهم على ذلك، بل ميز بين عداءه للانظمة العراقية وبين العلاقة الاخوية بين الشعبين الكردي والعربي. ولم يحاول خلق بيئة كردية معادية للعرب في كردستان، بل رسخ شعورا اخويا بين الكرد تجاه العرب، في التأكيد على ان الثورة هي ضد انظمة حكم قمعية وليست ضد الشعب العربي. لذلك لم نشهد حالات قتل مدنيين عرب طوال تاريخ الثورة الكردية لا في كردستان ولا في العراق ككل، ولا تزال هذه الظاهرة شاخصة في كردستان العراق. - قدرته على ارساء السلم الاهلي. وفي هذه النقطة ايضا يعتبر الديمقراطي الكردستاني استثناء عن بقية الاحزاب العراقية، ففي الوقت الذي كان العراق يعاني من حرب مذهبية قذرة يقتل فيه الانسان على هويته لغاية 2010، كانت كردستان واحة السلام الوحيدة في صحراء العراق هذا، فالشيعي والسني اللذان كانا يتقاتلان في بقية المدن العراقية كانا يعيشان بسلام واخاء جنبا الى جنب في كردستان العراق متناسين الكراهية والحقد اللذان كانا يعانيان منهما وهم في مناطق العراق الاخرى. ليس هذا فحسب، بل ان كل اصحاب الفكر المعارض والمختلف عن الفكر السائد في العراق كانوا يرون في كردستان ملاذهم الامن وما يزال الديمقراطي الكردستاني يرسي هذا المبدأ في كردستان. بهذا النهج وهذه السياسة استطاع الديمقراطي الكردستاني الاستمرار بنفس القوة والتأثير لأكثر من ست وسبعين سنة، وتجديد نفسه قاطعا اشواطا من النضال بدأت بالنضال المسلح وانتهت بتشكيل اقليم يفوق الكثير من دول المنطقة استقرارا وامنا ورخاء، ورغم محاولات اعداء هذا الحزب داخل كردستان وخارجه في العراق والمنطقة في شيطنة هذا الحزب امام جمهوره وشعوب المنطقة، فان ما قدمه الديمقراطي من انجازات وما استطاع نشره من ثقافة تسامح وتعايش وارساء علاقات جيدة مع مختلف الدول والتوجهات كان كفيلا بإظهار صورته الحقيقية، فاصبح مثار اعجاب وتقدير الشارعين الكردي والعربي. فليست الشعارات هي من يهتم بها الشارع وانما ما يتحقق على ارض الواقع، ولم تعد الحملات المغرضة ضده تؤثر على راي الشارع تجاهه، فما هو ملموس من سياسته يدحض كل هذه الحملات، لذلك اصبح الكثير ممن كانوا يناصبونه العداء يتفهمون مواقفه بل ويؤيدونه. هناك حقيقة تقول "عندما يكون عدوك غير راض عنك فاعلم انك على الطريق الصحيح وانك تدافع عن اهداف سامية"، فلا احد يعادي او يتامر على الذيول لانهم ببساطة... ذيول.
مشاركة :