لا اختلاف حول الأهمية البالغة للمسرح الجامعي في مصر، الذي يتجاوز المجال الفني إلى التأثير الاجتماعي والسلوكي والنفسي والفكري، ومساهمته الفعالة في تثقيف الطلاب وفتح آفاق أمامهم، ويبقى هذا المسرح المنشأ الأول للفنانين إذ لا يتوقف عن استقطاب المواهب، وقدم على امتداد عقود تجارب فارقة للساحة الفنية، لكنه في السنوات الأخيرة يواجه تراجعا كبيرا. القاهرة – سلطت الدورة الرابعة لملتقى القاهرة الدولي للمسرح الجامعي، التي اختتمت أعمالها مؤخرا، الضوء على مشكلات تعاني منها مواهب عديدة في الجامعات والمؤسسات التعليمية وغيرها من أماكن الأنشطة الثقافية المسرحية في مصر من جهة الانفتاح وتوفير الأجواء المناسبة لرعاية قدراتها وتقديمها إلى الجمهور. حصلت الفرق المسرحية المصرية التي شاركت في الملتقى، خلال الفترة من الثاني والعشرين إلى الثامن والعشرين من أكتوبر الماضي، بين 13 عرضا مسرحيا، على جوائز عدة في الملتقى الأخير، وفاز الفريق المسرحي لجامعة الفيوم (جنوب غرب مصر) بأفضل أداء جماعي عن مسرحية “الجزيرة”، وفازت الطالبة سلمى عبدالكريم من المنصورة (شمال مصر) بأفضل ممثلة، والطالب أحمد المصري عن دوره في مسرحية “صلة” التي قدمتها جامعة عين شمس بالقاهرة، مناصفة مع الطالب السعودى (كميل علي) عن مسرحية “معرض الأرجل الخشبية”. وكرمت الدورة الرابعة من الملتقى الذي يقام سنوياً منذ العام 2018 برعاية وزارتي الثقافة والشباب والرياضة في مصر بجانب هيئات فنية وثقافية مختلفة عددا من نجوم المسرح والفن، في مقدمتهم الفنانة إسعاد يونس والفنان هاني رمزي، والفنانة المغربية لطيفة أحرار، وكرمت كذلك اسم الفنان المصري الراحل محمود ياسين. رشا عبدالمنعم: الحرية أول عامل لتطوير المسرح الجامعي الذي يحتاج عناية رشا عبدالمنعم: الحرية أول عامل لتطوير المسرح الجامعي الذي يحتاج عناية وشهد الملتقى تنظيم مسابقة “نجم الجامعة” لاكتشاف المواهب و”علاء جابر للكتابة النقدية والإبداعية” لاكتشاف مواهب الكتابة والنصوص المسرحية، وتنظيم سبع ورش بمدربين دوليين في المجالات ذات الارتباط بالإنتاج المسرحي، وشارك في الملتقى ما يقرب من 700 شاب عربي من دول: المغرب وتونس والسعودية ولبنان والأردن وعمان وسوريا والعراق والكويت والبحرين والإمارات. العناية بالمسرح الجامعي يتفق العديد من نقاد المسرح على أن الملتقى كان يمكن أن يتحول إلى فرصة مناسبة لاكتشاف المزيد من المواهب المدفونة، حال جرى دعم النماذج الفائزة في المسابقات المختلفة وتقديم الرعاية اللازمة لتطوير قدراتها، لأن العديد من الموهوبين في جامعات ومؤسسات تعليمية متباينة تتوارى مع عدم وجود بيئة تساعدهم للاستمرار. وتأتي المشكلة الأخرى في توالي شكاوى القائمين على المسارح في المدارس والجامعات من عدم قدرتهم على الحصول على التصاريح اللازمة لاستكمال الأعمال التي يسعون لتقديمها، وغياب الدعم الأكاديمي المقدم للأعمال المسرحية، فضلا عن تدخل جهات أمنية لمنع تقديم بعض العروض بحجة أنها تثير الفتنة أو تلامس أوضاعا غير مرغوب الاقتراب منها، ما دفع مواهب عدة إلى العزوف عن المشاركة في النشاط المسرحي. وتعد واقعة تدخل لجنة النشاط المسرحي بجامعة الإسكندرية لوقف عرض مسرحية “ميراث الريح” التي تناقش التناقض المزعوم بين الدين والعلم بحجة أنها “تثير الفتنة” و”تحمل أفكارا ملغومة” من أبرز الحالات التي أثارت جدلاً منذ ثلاث سنوات، وتكررت ملامح منها في كليات نوعية تضع علوم المسرح في مقدمة مناهجها. لم يعد المسرح الجامعي كما كان في السابق مستقطباً لكبار المخرجين المصريين من أجيال مختلفة، فقد نجح في جذب أسماء لامعة مثل، كرم مطاوع وسناء شافع وحسين عبدالقادر وسعد أردش وفهمي الخولي وغيرهم، كان دورهم يتمثل في اكتشاف المواهب المنتشرة بكثافة في الجامعات والمؤسسات التعليمية المختلفة، وشاركوا كموجهين يعلمون الأجيال الصاعدة فن المسرح. سامح مهران: المسرح وسيط فني أعلى من أي أيديولوجيا سياسية سامح مهران: المسرح وسيط فني أعلى من أي أيديولوجيا سياسية تقول الكاتبة المسرحية رشا عبدالمنعم إن “المسرح الجامعي ما زال هو المفرخ الرئيسي للمواهب الجديدة في مصر، لكنه بحاجة إلى عناية فائقة تساهم في الحفاظ على الثروات الفنية المهدرة، وأن إقامة ملتقى دولي لمسرح الجامعات ليس كافيًا لتحقيق ذلك، والمسابقات السنوية التي تجريها المسارح الجامعية بحاجة ليواكبها التبادل المستمر في العروض بين الجامعات مع الاهتمام بمسابقات الكتابة والتأليف”. وتضيف في تصريح لـ”العرب” أن “العامل المهم في تطوير المسرح الجامعي يتمثل في إتاحة مناخ من الحرية العام يدعم تقديم عروض إبداعية، وأن الأجيال الحالية التي ترتبط على نحو أكبر بالوسائط التكنولوجية الحديثة تطلب مساحات واسعة تتماشى مع ما تتعرض له من محتويات خارجية”. وتشدد على ضرورة أن يكون المسرح أكثر الأماكن التي تتاح فيها الحرية ولا يجب أن يقل بكثير عما يتعرض له الشباب في الوسائط الأخرى، والحد من التعقيدات التي تواجه العروض المختلفة والتدقيق في مسألة الملكية الفكرية وتقديم تسهيلات تتواءم مع إمكانيات مسارح الجامعات. وتذكر أن الكثير من العروض التي تُقدم على مسارح الجامعات يتم دفنها بعد عرضها في المسابقات الخاصة بالجامعة، في حين أن هناك عروضا تظهر بجودة فنية عالية للغاية يمكن الاستفادة منها وتقديمها للجمهور على مسارح الدولة بدلاً من لجوء الطلاب إلى تقديم أفكارهم تحت أسماء أخرى عقب التخرج. واستطاعت مسرحية “بنت القمر” التي شاركت في ملتقى القاهرة الدولي للمسرح التجريبي عن كلية العلوم بجامعة حلوان (جنوب القاهرة) أن تحصد جملة من الجوائز من خلال مشاركتها في مسابقات مسرحية محلية، إذ شاركت في المهرجان القومي للمسرح في دورته الأخيرة وحازت على جائزة أفضل مؤلف صاعد وشهادة تقدير للمؤلف ومخرج العرض محمد السوري، وشاركت في مهرجان الإسكندرية المسرحي ضمن الأعمال المشاركة (بلا إنتاج)، وحصد العرض جائزة أفضل عرض، كما أن مؤلف العمل ومخرجه حصدا جائزة أفضل مؤلف ونص مسرحي بالمهرجان ذاته. وسيط فني بوكس تعبر مسرحيات الجامعة عن الهوية الثقافية للطلاب ويشكل استقطابها للمواهب الشابة إحدى أهم أدوات تفريغ الطاقات، وتتسم بأنها تبرز حماس الطلاب وشغفهم للاستمرار في مجالات التمثيل والتأليف والإخراج والإصرار على تحقيق ذاتهم. ويبدو مسرح الجامعة متجددا نتيجة اختلاف الرؤى وتعدد الثقافات وفقًا للمناطق الجغرافية المختلفة التي تنتشر فيها الجامعات، ما يجعل الكثير من الفنانين يرون أن الجامعة نبع لا ينضب من الفن والإبداع بأنواعه المختلفة. ويؤكد الناقد المسرحي سامح مهران أن المسارح في المؤسسات التعليمية تواجه مشكلات عديدة، على رأسها تراجع أهمية الفنون بالنسبة إلى الكثير من القائمين على العملية التعليمية، ما يجعل أساتذة المسرح في أكثر من 23 كلية نوعية مختصة في الفنون يجدون صعوبة في التواصل مع تلاميذ المدارس لاكتشاف المواهب منذ الصغر، ودائما ما تكون الشكاوى من وجود مقاومة قوية لوجودهم داخل المدرسة. ويشير في تصريح لـ”العرب” إلى أن المدارس هي الرافد الرئيسي للمواهب في الجامعات، ولم تعد غزارة الطلاب المهتمين بالمشاركة في المسرح الجامعي كما كانت في السابق، كما أن التضييق في مجال الحريات وعدم السماح لطلاب التيارات السياسية بممارسة الأنشطة الفنية داخل الجامعة أثرا سلبًا عليها. ويذكر أن ذلك يمثل خطأ كبيراً لأن المسرح وسيط فني أعلى من أي أيديولوجيا سياسية، ويخلق مساحات مهمة للاختلاف في الرؤى بين الشباب ويتيح فرصة للشباب لأجل التعبير عن أنفسهم وأفكارهم واتجاهاتهم بشكل يساعد على دمجهم في المجتمع بدلاً من تركهم فريسة للأفكار والتيارات المتطرفة التي تستقطبهم. ويشكو العديد من المهتمين بالمسرح من ضعف التعليم الأكاديمي للفنون وانعكاسه سلبًا على تطوير مسرح الجامعة، والذي تتصاعد المطالبات بضرورة تحديثه والاستعانة بمرجعيات أوسع وإيجاد خريطة مهنية جديدة للوظائف ذات الارتباط المباشر بالمسرح مثلما هو الحال بالنسبة إلى التقنيين الذين يعانون انقراضَا الآن، وتحاول أكاديمية الفنون بالقاهرة تعويضه من خلال مدرسة أكاديمية الفنون للتكنولوجيا التطبيقية التي تم افتتاحها منذ ثلاث سنوات وترمي إلى المساهمة في التطوير الفني.
مشاركة :