توجه الأنظار نحو العلاقة الفرنسية - الألمانية

  • 11/9/2022
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

من بين التحيزات البشرية الشائعة الاعتقاد بأن الأمور كانت أفضل حالاً في الماضي، لكن هذا التحيز نادرا ما يصمد أمام التدقيق، ولا تُشكل التصورات المتعلقة بالعلاقات الفرنسية الألمانية السابقة استثناءً، ففي حين أن العلاقات الثنائية كانت منذ فترة طويلة تُشكل أهمية قصوى بالنسبة لأوروبا، فإنها اتسمت دائما بالخلافات والانقسامات الشديدة. يُعد هذا التأويل مفهوما، فقد كانت العلاقات الفرنسية الألمانية بمنزلة الأساس الأصلي للاتحاد الأوروبي، الذي بدأ كمجتمع للفحم والصلب في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، ولا يزال يمثل المحور المركزي للاتحاد الأوروبي، فبدون فرنسا وألمانيا- أكبر اللاعبين وأكثرهم أهمية من الناحية الاقتصادية والسياسية، مما يجسد التوازن بين الشمال الأوروبي وجنوب البحر الأبيض المتوسط - ما كان من الممكن إحراز تقدم حقيقي نحو التكامل الأوروبي. ولكن مع توسع الاتحاد الأوروبي في عام 2004، أصبحت أساليب العمل الداخلية أكثر تعقيدا، حيث تمت إضافة بُعد جديد إلى التوجه التقليدي بين الشمال والجنوب: أوروبا الوسطى والشرقية، لقد تزايدت أهمية هذه المنطقة الآن فقط بعد أن غزا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دولة مجاورة ذات سيادة وشن حربا واسعة النطاق في القارة. وبصرف النظر عن كيفية تطور هذا الصراع، فقد سادت حالة من انعدام الثقة لا يمكن تداركها بين أوروبا وروسيا، لقد أدى عدوان بوتين إلى تغيير الحسابات الاستراتيجية بشكل جذري وخلق الظروف اللازمة لظهور نوع جديد من الحرب الباردة وسط أوروبا وشرقها، وتمثل روسيا التي ينتمي إليها تهديدا متوقعا طويل الأمد من شأنه أن يجبر الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه على استثمار المزيد في القدرة على الدفاع عن أنفسهم ونظامهم الديموقراطي الليبرالي ومبادئهم بالوسائل العسكرية. بعبارة أخرى، يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يحول نفسه إلى لاعب جيوسياسي يتمتع بسيادة وقدرة ردع عسكرية خاصة به للدفاع عن مصالحه، وينطبق هذا التحدي أولاً وقبل كل شيء على ألمانيا، وليس لأنها الدولة العضو الأكثر اكتظاظا بالسكان ذات الاقتصاد الأكبر فحسب، بل لكونها تقع في قلب أوروبا، ويتمتع تاريخها المروع في القرن العشرين بالقدر نفسه من الأهمية، فقد كانت ألمانيا من وجه الشعلة مرتين إلى القارة الأوروبية، وارتكبت جرائم لا مثيل لها في عهد هتلر حتى استسلامها غير المشروط وتقسيمها. ثم تحول المعتدي الرئيسي في النصف الأول من القرن العشرين إلى بلد يضم التجار والمصنعين المسالمين، فبعد التخلي عن الحرب واتباع سياسة سلمية ترسخت بعمق في شعبها، أصبحت ألمانيا رائدة عالميا في مجال التصدير، ومع مرور الوقت، سمح لها مسار ما بعد الحرب في بناء الثقة مع أعدائها السابقين، وهو ما كان شرطا مسبقا لإعادة التوحيد السلمي عام 1990. ومع ذلك، بددت حرب بوتين العدوانية الوهم بأن ألمانيا يمكن أن تظل دولة تجارية مسالمة إلى أجل غير مسمى، وبعد ثلاثين عاما من السلام والاستقرار النسبيين، أصبحت أوروبا الآن تحت التهديد العسكري المباشر مرة أخرى، وباعتبارها القوة الاقتصادية الأقوى في الاتحاد الأوروبي، يتعين على ألمانيا تقديم عروض سلمية والبدء بإعادة التسلح، وتحويل قوتها الاقتصادية فعليا إلى عملة استراتيجية. لقد تحركت البلاد بالفعل في هذا الاتجاه، ففي خطابه بعنوان (لحظة فاصلة) الذي ألقاه أواخر فبراير، أعلن المستشار الألماني أولاف شولتز تمويلا جديدا بقيمة 100 مليار يورو (99 مليار دولار) للجيش الألماني، ثم أعقب ذلك حزمة بقيمة 200 مليار يورو لتخفيف الضربة الناجمة عن ارتفاع أسعار الطاقة، وستكون ألمانيا الجديدة بلا شك موضع اهتمام جيرانها، وخاصة فرنسا. وباعتبارها القوة النووية الوحيدة في الاتحاد الأوروبي والدولة العضو الوحيدة فيه التي تشغل مقعدا دائما في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (وهما أمران لا تريدهما ألمانيا ولن تحققهما أبدا)، من الواضح أن فرنسا حذرة من الدور الجديد الناشئ الذي تؤديه ألمانيا، ولا يزال من غير الواضح أي نوع من أوروبا تريده ألمانيا الجديدة، وقد أدى عدم اليقين هذا إلى خلق حالة من انعدام الأمن غير الضرورية، كما أن عدم كفاءة الحكومة الألمانية وغياب التنسيق في أعقاب خطاب شولتز لم يساعد في حل المشكلة. قد يؤدي تزايد الشكوك بين فرنسا وألمانيا إلى سوء فهم وأخطاء غير مُبررة من كلا الجانبين، مما قد يؤدي إلى نشوب صراعات حقيقية من شأنها أن تعرض الأمن الأوروبي لخطر أكبر، ومع اندلاع حرب برية واسعة النطاق على حدودها، فإن الأمر يتطلب عكس ذلك تماما: تعاون وتضافر أوثق بين أكبر اللاعبين في الاتحاد الأوروبي، وخصوصا في مجال مشاريع الأسلحة المُشتركة. لقد أصبح الوضع أكثر تعقيدا بسبب التحول نحو الشرق في مركز ثقل الاتحاد الأوروبي، ووعد الاتحاد الأوروبي الجديد بتوسيع العضوية لتشمل أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا، وستعمل عمليات الانضمام الجديدة هذه على تسريع تحول الاتحاد الأوروبي من سوق مشتركة ومشروع تحديث إلى لاعب جيوسياسي. علاوة على ذلك، هناك وعود طويلة الأمد لم تتحقق بعد بعضوية دول غرب البلقان، ناهيك عن المسألة التركية المعقدة للغاية، فمن الواضح الآن أن تقريب هذه البلدان من التوافق يصب في المصلحة الاستراتيجية لأوروبا. ستصبح هذه المناطق، إلى جانب شرق البحر الأبيض المتوسط وشمال وغرب إفريقيا، من الاهتمامات الأساسية للأمن الأوروبي في العقود المقبلة، ويتعين على أوروبا التعامل معها، في حين تعمل أيضا عن كثب مع شركائها عبر المحيط الأطلسي من خلال حلف شمال الأطلسي القوي، وإذا كان بإمكان الاتحاد الأوروبي القيام بذلك فسيعتمد أولاً على فرنسا وألمانيا، اللتين يتعين عليهما العمل معا في إطار من الصداقة وحسن النوايا، على الرغم من الخلافات والتعقيدات الجديدة، والتعاون مع جميع الأوروبيين لدعم مشروعهما المشترك. * يوشكا فيشر وزير خارجية ألمانيا ونائب المستشار من 1998 إلى 2005، وكان زعيما لحزب الخضر الألماني لما يقرب من 20 عاما.

مشاركة :