تكشف الحقائق بجلاء أن الاضطرابات التي يموج بها الشرق الأوسط ليست سوى جزء من تغييرات تطال هيكل العالم الذي يتحول من آحادي القطب إلى متعدد الأقطاب، في ظل انخفاض تأثير ونفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وتتحول سياسة الولايات المتحدة في هذه الفترة من التدخل المباشر إلى سياسة الموازنة، فالشرق الأوسط لم يعُد محور إستراتيجية الولايات المتحدة التي ستعتمد سياستها المستقبلية على حلفائها في المنطقة، وسيظل تدخلها في شؤون الإقليم من خلف الستار. وتريد الولايات المتحدة تقييد دور القوى الناشئة من ناحية وتقليص الفضاء الإستراتيجي لمنافسها القديم -روسيا- من ناحية أخرى، كما تريد الإبقاء على تأثيرها ونفوذها فيما يتعلق بالقضايا الدولية المهمة بالشرق الأوسط، مثل مكافحة الإرهاب. ولكن مع تراجع قوتها وتزايد ديونها، لا يمكن أن تضرب كل "هذه العصافير بحجر واحد"، لذلك قلصت الولايات المتحدة من إستراتيجيتها في الشرق الأوسط. أما فيما يتعلق بروسيا، فإنها تتطلع من خلال التدخل في شؤون الشرق الأوسط إلى كسب ورقة مساومة في المفاوضات مع أوروبا والولايات المتحدة، وبالتالي تحقق هدف تعديل علاقاتها مع الولايات المتحدة. وتنظر روسيا للوضع في سورية باعتباره عاملا يمكن أن يسهم في تخفيف الضغوط التي تتعرض لها جراء خلافها مع أوروبا بشأن أوكرانيا. ولا يُعتقد أن اضطرابات الشرق الأوسط وارتفاع أسعار النفط يفيدان روسيا على المدى الطويل، لأنه سيصبح من الصعوبة بمكان تحمل عواقب التهديدات الإرهابية الناتجة عن الاضطرابات في المنطقة، مقارنة بالنتائج التي ستتمخض عن انخفاض أسعار النفط. ومن المتوقع ألا تنحاز روسيا إلى جانب حليفها القديم إيران في الخلاف الإيراني - السعودي، ولكنها قد تغتنم هذه الفرصة لتحسين العلاقات مع الدول العربية الأخرى. أما أوروبا، فإنها سقطت ضحية الأوضاع في الشرق الأوسط رغم تدخلها في شؤون هذه المنطقة بشكل علني في بداية الاضطرابات، حيث باتت الأشد تضررا منها في ضوء تزايد تدفق اللاجئين عليها، وكثرة وقوع الاعتداءات الإرهابية فيها، ولم يعُد لدى القارة العجوز الآن القدرة على التدخل رغم ما تضمره من نية في هذا الصدد. لقد أصبحت قوة التنافس الجيوسياسي في الشرق الأوسط أشد من قوة المكافحة المشتركة للإرهاب، إذ أدى تفاوت مصالح الدول الكبرى في المنطقة إلى تشتيت تركيز القوى التي تكافح الجماعات الإرهابية، على رأسها تنظيم داعش. وبالطبع فإن الصين تدعو دوما إلى حل النزاعات عبر التسويات السياسية، وتتطلع دوما إلى أن ينعم الشرق الأوسط بالأمن والاستقرار. إنني أرى مع تعميق بكين لعلاقاتها مع الأقطار العربية، لا بد أن تضع الصين رؤية إستراتيجية شاملة تجاه الشرق الأوسط. وأن تولي الصين، على نحو مغاير للنهج الغربي الذي يتركز على تقسيم مناطق النفوذ واللجوء للقوة العسكرية، اهتماما بالشق الاقتصادي من خلال تطبيق مبادرة "الحزام والطريق" لتحقيق "حلم التنمية المشتركة" للجميع.
مشاركة :