طريق البحث عن المعنى مُتشعب، وتختلفُ المصادرُ التي يستمدُ منها المرءُ قيمة معنوية لحياته، وقد يغامرُ من أجل ذلك منضوياً إلى مظلة الكيانات الاجتماعية ذات خلفية عقائدية أو سياسية أو فئوية.لكن هناك من يخالفُ هذا التوجه ويمضي مُستكشفاً حاضنةً جديدةً تحمي الإرادة من الاندماج مع الظواهر التي قد لاتدومُ لأمدٍ طويل. والمتأملُ في حياة المبدعين يدركَ بأنَّ مدنيوية هؤلاء ليست إلا لاهتماماتهم الفنية أو العوالم الموازية .فإنَّ التجاربَ المُعاشة لن تكونَ مقبرةً ضخمة لأوقات ميتة بالنسبة للمبدع بل تتحولُ إلى منجمٍ ينهلُ منه مواده الأولية لحياكة الأعمال المعبرة عن شكل التواصل مع الواقع وتحدياته المُضنية.تشيرُ الكاتبةُ الفرنسية الحائزة على جائزة نوبل لهذا العام آني آرنو"إلى أنَّ الغاية من حياتها هي الكتابة "لعلَّ الهدف الحقيقي من حياتي هو فقط التالي أن يتحولَ جسدي وحواسي وأفكاري إلى كتابة" وهي تريدُ إذابة وجودها من خلال الكتابة في أذهان الآخرين وحياتهم. وعليه فإنَّ آرنو تستلهمُ من سيرتها الذاتية نواة أعمالها الروائية وبذلك يكون الزمن الفردي ملمحاً بارزاً في خطها الإبداعي مع ماتستشفُ في نصوصها من الحس اليساري لكن هذا يعبرُ عن المبدأ الشخصي أكثرُ من أن يكونَ الغرضُ منه تعبوياً أو استعراضياً. مستقبل غير مرغوب فيه واللافتُ في آلية السرد لدى صاحبة "مذكرات فتاة" هو الاسترسال بضمير المُتكلم والانطلاقُ من الحدث والوضوح في الصياغة والاهتمام بتكوين الحقل المُعجمي وهذا يبدوُ ملحوظاً في رواية "الحدث" إذ تدورُ حول تجربة فتاة جامعية وهي بلغت الثالثة وعشرين من عمرها مع قرار الإجهاض.وتتواردُ في هذا السياق تلك المؤشرات التي تؤكدُ على أنَّ ماتسردهُ الراوية عن حيثيات الحدث الذي يعودُ إلى عام 1963 ليس إلا محطةً من حياةِ آني إرنو حيثُ تلمحُ الأخيرةُ إلى الأحلام التي تراودها حولَ بحثها للتخلص من الجنين.أيا يكن الأمر لاينفصلُ النصُ عن الزمن الفردي سواء في سياق تغطيته للحدث المحرك أو إعادة رسمه لطيف الأحلام.وما ترومهُ الكاتبة وهي معتكفةُ على مرويتها السيرية هو استعادة وجوه عدد أكبر من الطلبة الذين رافقتهم في المرحلة الجامعية مشيرةً إلى أنَّ أساليب عيش هؤلاء وتركيبتهم الجسمانية لاعلاقة له بما كانت عليه إبانة عهد الستنيات، مايزيدُ من خصوصية صوت الساردة هو الاستبطان في طبقات سحيقة من المشاعر التي تنبيءُ عن التحول والانطواء على هموم ذاتية. تنقسمُ حياة البطلة على مستويين إذ تنغمسُ في اهتماماتها اليومية وتصاحبُ الأصدقاء لمشاهدة الأفلام والأعمال المسرحية من جهة وتنهمكُ من جهة أخرى على زمنها الخاص الذي يؤرقها لذلك تريدُ الانفلات منه بأي ثمن كان وهي بداية تخوض حربها على المستوى اللغوي ولا تقبل بتسرب مفردات تحملُ في طياتها معنى يحيلُ إلى مستقبل غير مرغوب فيه، وبالمقابل ينفتحُ ذهنها على مايمكنها من قطع الطريق على اللحظة التي تُسند إليها دوراً جديداً على مسرح الحياة.إذن الهروب من هذه المداهمة يشغلُ تفاصيل أيامها أكثر من ذلك تطفوُ في هذه الرحلةِ ظواهرُ من قاع المجتمع لعلَّ من أبرزها مايسمي ب"صانعة الملائكة" وهي الممرضة التي تقومُ بوظيفة الطبيب في إجراء عملية الإجهاض .ولا تذكرُ الراوية شريكها إلا تلميحاً مؤنبةً إياه باللطف لأنه الشخص الوحيد الذي لم يهتم بأمرها.وكل مايرجوه هو العودة إلى الطور الذي كان عليه قبل هذه القصة. غير أنَّ الطالبة الجامعية لاتريدُ أن تخسرَ صديقها خوفاً من الفراغ العاطفي.والحال هذه لايترشحُ من الكلام نفس عدواني ضد الآخر.يشار إلى أنَّ الشخصية التي تستأثر بالوصف على المستوى الشكلي هي السيدة ب-ر التي ترتادُ الفتيات إلى شقتها للتخلص مما تخلفه الرغبة في يوميات الجسد.إذن لايغيبُ الجسدُ في عالم آني إرنو الإبداعي فهي تتوغلُ في جغرافيته كاشفةً عن هواجسه في رواية "شغف بسيط" حيثُ ترصدُ حياةَ إمرأة ِتعيشُ علاقة عاطفية محمومة مع رجلٍ غريب.ولايخرجُ السردُ من حزامِ مطارحات غرامية ممزوجة بالتوتر من الزمن الفاصل بين اللقاءات الحميمية.وعلى ذات المنوال تحفر رواية "الاحتلال" في ملعب الصراع النفسي الذي تعاني منه الراوية عندما يخبرها العشيق السابق "w" بأنه يقيمُ علاقة مع إمرأة إخرى.وذلك يكونُ أمراً صادماً بالنسبة إليها ومايزيدُ من إحباطها العاطفي هو رفض w البوح باسم عشيقته الجديدة. ومن هنا ينحو السردُ منحىً تعقبياً وتبدأُ المساعي بحثاً عن أحجية هذه المرأة.وكل ما في متناول الراوية عن شخصية الغريم أنها تبلغ من العمر 47سنة وتسكن جادة "راب" وهي مدرسة مطلقة.إذ يلوحُ طيف هذه المرأة في وجوه النساء اللائي تصادفهنَّ في الطريق كما تتخيلها في وضعيات حميمية مع عيشقها السابق، وتتوسلُ بالشعوذات لإقصاء المرأة التي تزاحمها على قلب w وفي الأخير تجدُ الراوية في الكتابة تعويذة للخروج من حالة تصفها بالاحتلال والاستشفاء من داء الغيرة ومن نافلة القول بأنَّ الحديثَ عن الكتابة عبارة عن المنطقةُ التي تتقاطعُ فيها روايات آني إرنو. إذ تعتقدُ بأن أسلوب الكتابة يساعدها للتغلب على الوحدة وعتمة الذكرى الفردية وذلك باكشتاف دلالة أكثر شمولاً لتكوينها الحياتي. سيرة الأم لاتغادرُ إرنو في روايتها الموسومة ب"إمرأة" المادة السيرية في منحى الكتابة وتسردُ بالضمير الأول حلقات من حياة الأم والإبانة عن طبيعة بيئة المنشأ.ومايثيرُ مخزون الذكرة هو خبر موت الأم التي كانت تمضي أيامها الأخيرة بدار العجزة في بونتواز حيثُ وضعتها الإبنةُ عندما أدركت أن التعامل مع حالتها أصبحَ صعباً.يُذكر أنَّ الاستهلال في هذه الرواية يعيدُ إلى الأذهان افتتاحية "الغريب" لكامو.غيرَ أنَّ الساردة لاتتصرف على غرار ميرسو الذي بدا موقفهُ خالياً من العاطفة.يتماهى السردُ في رواية "إمرأة " مع الأجواء المأتمية وينصرفُ شعور الإبنة نحو الحدث ومايستتبعه من مراسم الجنازة و الدفن وتختارُ تابوتاً من خشب البلوط لأنَّ الراحلة كانت تحبُ هذه الشجرة.وتعبرُ مطالبتها برؤية الوالدة في رقودها الأخير بمستودع الموتى عن التأثر بحالة الفقد.يتفاقعم الشعور بالغياب لدى الإبنة وتفاجئها نوبات البكاء بعد إسبوع على رحيل الوالدة.ويصعبُ عليها تدبر الأمور الحياتية والعودة إلى شؤونها اليومية.وأحلامها مؤثثة بطيف المرأة الغائبة.ولايمكنها متابعة القراءة وما يفتكُ بها هو اليقين بأن الوالدة لم تعد موجودة في أي مكان آخر بالعالم.لذلك تتحولُ إلى الكتابة. باعتبارها مجالاً للمواساة.وبخلاف ماجرتْ عليه العادة مع أحداث أخرى كموت الوالد والانفصال عن شريكها إذ انتظرت إلى أن تغلغت هذه الوقائع في سيرورة حياتها قبل أن تشرع بالكتابة.فإنَّ المسافة لم تفصل بين رحيل الوالدة والانخراط في الكتابة إذ ما أنْ تمرَ مدة قصيرة على الغياب حتى بدأت برواية سيرة المرأة الوحيدة التي كانت تعني لها حقاً.مُعلنةً ضمن وحدات هذه المروية السيرية بأنَّ ماتصبو إلى كتابته يقع على حدود العائلي والاجتماعي .وتشيرُ إلى خطف الموت لشقيقتها الكبرى قبل أن تراها.زيادة على ماسبق فإنَّ إرنو تلفتُ النظر إلى صراعها مع البيئة الأسرية المُحافظة فكانت متمردةً على الأعراف الإجتماعية والدينية واغرمت بقصائد بريفير ورامبو وأغنية السمعة السيئة لجورج براسانس، وتحيلُ في تضاعيف حزام السرد إلى موت الوالد في 1967 وما كتبتهُ عنه. يقولُ دوبرفسكي إنَّ معنى حياتنا بشكل ما ينفلت منا وما علينا إلا أن نعيد ابتداعه في الكتابة، وهذا ما تتوخى تحقيقه آني إرنو من خلال مايسمى بالتخييل الذاتي.
مشاركة :