«الحياة الاقتصادية في الحجاز وعلاقاته في عصر المماليك»، هو عنوان الكتاب الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب للدكتور محمد محمود العناقرة، أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة اليرموك. يتناول الكتاب الأحوال الاقتصادية للحجاز ومكانته الدينية في عصر سلاطين المماليك الذين حرصوا على السيطرة على الحجاز، وتثبيت أقدامهم فيه منذ أيام الظاهر بيبرس (676هـ - 1277م) واستمر ذلك حتى نهاية دولة المماليك (923هـ - 1517م) وسيطرة العثمانيين على بلاد الشرق العربي، بما فيها الحجاز. ونشأت علاقة متميزة بين المماليك وإمارة مكة، توثقت في عهد السلطان المنصور قلاوون، ونظراً إلى أهمية الحجاز الدينية والتجارية، فقد حرص المماليك على ضمّ هذا الإقليم لتزيد هيبتهم أمام المسلمين في العالم. وكان لموقع بلاد الحجاز الاستراتيجي على البحر الأحمر، واتصاله ببلاد الشام شمالاً واليمن جنوباً وبمصر براً وبحراً، أثره الكبير في النشاط التجاري داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها، وساعد على ذلك وقوعها على الطريق البري التجاري الذي يربط اليمن من جهة، والعراق وبلاد الشام ومصر من جهة أخرى. فالسيادة على الحجاز تخدم التجارة المملوكية عبر الحجاز والبحر الأحمر. وعملت سياسة الدولة المملوكية على إضعاف مركز عدن التجاري منذ ازدهار طريق البحر الأحمر التجاري في القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، وإحلال ميناء جدة محلّه، فقد كانت جدة واجهة مكة البحرية وعتبتها على البحر تؤمها المراكب من اليمن والشرق الأقصى وشرق أفريقيا ومصر والشام، حيث تفرغ حمولتها فيها ومن ثم تنقل إلى مكة، وذلك بعدما ساءت العلاقات السياسية بين المماليك وسلاطين بني رسول في اليمن، ومحاولات المماليك فتح اليمن وانتزاعها من بني رسول، إضافة إلى اضطراب الأوضاع الداخلية في اليمن، والتنازع على السلطة، وسياسة التعسّف التي اتبعها سلاطين اليمن مع التجار. وارتبط الحجاز مع العالم الخارجي بطرق برية وبحرية ساهمت في قيام علاقات تجارية مميزة، وقد استغلّ المماليك طرق التجارة، فسنوا الأنظمة والقوانين التي ساعدت في جلب التجار الأجانب إلى بلادهم، وتمثّل ذلك في المرسوم الذي أصدره السلطان المنصور بن قلاوون عام 687هـ / 1288م للتجار القادمين من الصين والهند والسند واليمن والعراق والعجم والروم وغيرهم، يرغّبهم بالتوجّه إلى الديار المصرية والشامية والحجازية ببضائعهم، مؤكداً لهم استعداده لتأمينهم على أموالهم وأنفسهم، ضامناً لهم حسن المعاملة والعدل ورعاية مصالحهم، ووعدهم بتقديم التسهيلات كافة، مع إتاحة الفرصة لمن يرغب في الإقامة منهم في تحقيق الراحة ورغد العيش. وكانت مكة مهيأة دائماً لاستقبال الحجاج والمعتمرين من مختلف أنحاء المعمورة، فهم يعملون على تنشيط سوقها التجاري الذي تجتمع فيه البضائع المختلفة من الهند والصين واليمن والشام ومصر والحبشة. وكانت تجارة مكة مزدهرة في العصر المملوكي، ففي عام 845هـ / 1441م، وصلت إلى جدة مراكب عدة، من الهند والصين، محمّلة بسلع الشرق الأقصى وأطيابه، كما كانت تدخل إلى مكة يومياً خمسمئة جمل. واعتمد أمراء مكة على متحصّل ميناء جدة من الضرائب والرسوم، ومما يؤخذ من التجار الوافدين إليها من اليمن والشام والهند وغيرها. وفي المدينة المنورة، كانت الحالة الاقتصادية أحسن حالاً من مكة لكثرة محاصيلها الزراعية، بخاصة التمور، ووفرة المياه، إضافة إلى الهدوء الذي شملها في معظم الأحيان لعدم وجود خلاف عنيف ما بين أمرائها على السلطة. وامتازت الطائف بخصوبة تربتها وجودة مناخها وكثرة المياه والأشجار فيها، وعزَّز موقعها الطبيعي مكانتها التجارية، ما جعلها ممراً للقوافل لتوسّطها ما بين الحجاز واليمن والعراق. وكان لدى الطائف اكتفاء ذاتي وفائض من المنتوجات الزراعية والصناعية، التي كانت تصدَّر إلى المناطق المجاورة، بخاصة مكة التي تعتبر سوقها التجاري الأول. وكانت المكوس (الضرائب) في عهد المماليك مقررة على البيوت والحوانيت والحمامات والأفران والطواحين والبساتين والمراعي ومصائد الأسماك والمعاصر والحجاج والمسافرين والمراكب، والأغنام والجاموس والبقر والصيد وغير ذلك، وكانت هذه الضريبة جائرة وغير شرعية، لأنه لم ترد في كتب الشريعة نصوص في شأنها، لذلك ألغاها بعض سلاطين المماليك. فعندما حجَّ الملك الناصر محمد بن قلاوون الحجة الثانية 719هـ / 1319م، أبطل سائر المكوس من الحرمين الشريفين، وعوَّض أميري مكة والمدينة عنها إقطاعات في مصر والشام، وأحسن إلى أهل الحرمين، وأكثر من الصدقات التي كانت تعدّ مصدراً مهماً للدخل في الحجاز. وكان الملك الظاهر بيبرس يرسل كل عام إلى مكة عشرة آلاف إردب قمح للفقراء والمساكين، وأرباب الزوايا، وأجرى على أهل الحرمين وطريق الحجاز ما انقطع في أيام غيره من الملوك. كما خصّص أمراء المماليك بعض الأوقاف كالمباني والدور والأراضي الزراعية والقصور والمدارس والأربطة والفنادق والحمامات، تصرف على أشراف البلد الحرام وفقرائه والمجاورين به. أما بالنسبة إلى المعاملات التجارية في الحجاز، فكان نظام المقايضة رائجاً بين تجار مكة وروادها، أو بواسطة الدنانير الذهبية والدراهم الفضية السائدة في الديار المصرية. وتعرّض الحجاز لأزمات اقتصادية كثيرة تفاوتت ما بين مكة والمدينة، ولعبت الظروف المناخية دوراً فيها، وكذلك الفتن الداخلية، أو فرض سلاطين مصر واليمن المكوس الباهظة على التجار.
مشاركة :