بقلم: هيلين ريشار في عام 1856 خسرت روسيا حرب القرم. وبما أنها تتحدى اليوم الغرب في أوكرانيا، ما ذكرياتها عن هذه الهزيمة؟ في ذلك الوقت، فرض المنتصرون معاهدة سلام ملائمة لهم. أما اليوم فإن خصوم الكرملين في الغرب يحلمون بتركيع روسيا؟ لقد راحت سلطات موسكو تلوح باستخدام الأسلحة النووية فيما راح الغرب يصعد من مناوراته ويكثف من تسليحه لأوكرانيا. لذلك فإنه نادرا ما كان الاستقرار العالمي هشا بمثل هذا الشكل الذي أضحى عليه اليوم. وفي حين أن البعض في الغرب يفضل التملص من هذه الموضوعات، يتبنى البعض الآخر المعتقدات الحربية للمحافظين الجدد وهم يدعون إلى تبني عقوبات تفرض على روسيا وترتد أيضا على أوروبا نفسها والدول الناشئة. قبل بضعة أشهر، ذهب في اعتقاد القادة الأوروبيين أن «الحرب الاقتصادية والمالية الشاملة» التي شنت ضد موسكو ستكون بمثابة نزهة في الحديقة، مع ضمان أن «تأثيرها سيكون منخفضًا» في أوروبا. يقول المفوض الأوروبي للسوق الداخلية تييري بريتون على إذاعة RTL، في تصريح له بتاريخ 1 مارس 2022: «روسيا بلد كبير جدًا وشعبها عريق (...) لكنها بالكاد تزيد على الناتج المحلي الإجمالي لإسبانيا». بعد ستة أشهر من الموجة الأولى للعقوبات الغربية، تعرض الاقتصاد الروسي لضربة قوية، لكن الانهيار لم يحدث على عكس ما كان يأمله الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية. توقع صندوق النقد الدولي حدوث ركود بنسبة 8.5 ٪ في شهر مارس. يتحدث البنك الدولي الآن عن انخفاض بنسبة 4٪ في الناتج المحلي الإجمالي الروسي، وبهذا المعدل، فإن ثروة البلاد بعيدة عن أن «تنخفض إلى النصف»، على عكس ما أعلنه الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن يوم 26 مارس 2022 في وارسو أمام حشد من البولنديين. من جانبه، تواجه دول الاتحاد الأوروبي تفاقما كبيرا في معدلات التضخم حتى باتت اليوم من رقمين، مدفوعًا بارتفاع أسعار الطاقة. في نهاية شهر سبتمبر 2022، أصدرت فرنسا ما يعادل ميزانية التعليم الوطنية لتمويل تدابير لدعم القوة الشرائية فيما ضاعفت سلطات برلين هذه الحصة ثلاث مرات من خلال خطة لحماية صناعتها بقيمة 200 مليار يورو. تقرر أيضا تقديم دعم جديد للشركات والأسر المتأثرة بالتضخم الذي يتجاوز 20٪ كما سارع البرلمان الليتواني إلى اعتماد الميزانية العامة لسنة 2023، وبذلك يصل المبلغ الإجمالي لهذه المساعدة إلى أكثر من 6٪ من الناتج المحلي الإجمالي. ناهيك عن قيام الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بتكثيف تسليم الأسلحة والمساعدات المالية لأوكرانيا، التي تحتاج، وفقًا لصندوق النقد الدولي، إلى 7 مليارات دولار شهريا لإدارة شؤونها. على خلفية أزمة الطاقة، فإن القطاعات التي تأثرت بالفعل بالاضطرابات التي أعقبت تفشي جائحة كورونا شملت المواد الكيميائية، والصلب، والأسمدة، وإنتاج الورق فيما تباطأ نمو قطاعات أخرى، علما بأن هذه القطاعات كثيفة الاستهلاك للطاقة كما انخفضت ربحيتها إلى السلبية. أعلنت بعض المجموعات الصناعية والاقتصادية أنها تريد نقل إنتاجها إلى فيتنام أو المغرب العربي أو.. الولايات المتحدة الأمريكية، التي زادت بنسبة 63٪ من شحناتها من الغاز الطبيعي المسال، المباع بسعر مرتفع بعدة أضعاف، إلى أوروبا والمملكة المتحدة لتحل محل الغاز الروسي. على سبيل المثال، تدرس ستون شركة ألمانية، بما في ذلك Lufthansa وAldi وFresenius وSiemens، نقل إنتاجها جزئيا إلى ولاية أوكلاهوما، التي أشاد محافظها بمزاياها النسبية للمستثمرين في أعمدة صحيفة Handelsblatt الألمانية اليومية. إن الوحدة الأوروبية، التي اتضح أنها نسبية، والتي أشاد بها ممثل الأغلبية المنتخب، لا يقابلها إلا توافقها مع أهداف ومصالح واشنطن. هل هي استراتيجية متعمدة أم هل يتعلق الأمر بخلل في الرؤية السياسية؟ قد تفسر صدمة الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا جزئيًا هذا العمى السياسي والاستراتيجي. في اليوم التالي للهجوم، علقت برلين نهائيًا افتتاح خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2، الذي كانت واشنطن تعترض على إنشائه على مدى سنوات. تم تسهيل هذا التنسيق من خلال التعاون الوثيق الذي تنظمه المفوضية الأوروبية بين ضفتي المحيط الأطلسي. وفقًا لمسح أجرته صحيفة فاينناشال تايمز أمضت إدارة الرئيس جوزيف بايدن «ما يقرب من 10 إلى 15 ساعة في الأسبوع، على الهاتف أو عن طريق الفيديو، مع الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء» بين نوفمبر 2021 وفبراير 2022، تاريخ الغزو، لوضع حزمة من العقوبات تحسبا لغزو عسكري روسي محتمل لجمهورية أوكرانيا. يتولى بجورن سيبرت، رئيس مكتب رئيس المفوضية الأوروبية، السيدة أورسولا فون دير لاين، منصبًا رئيسيًا في إدارة هذا الملف منذ بدايته مع بدء الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا، وهو يتنقل بانتظام بين واشنطن والدول الأعضاء. يقول مصدر في المفوضية: «لم يكن لدينا مثل هذا الاتصال الوثيق مع الأمريكيين بشأن قضية أمنية في تاريخ الاتحاد الأوروبي. إنه حقًا أمر غير مسبوق». سارع الحلفاء عبر ضفتي الأطلسي إلى وضع لما يمكن أن نسميه استراتيجية الانتقام المالي من روسيا، حيث تم استبعاد سبعة بنوك روسية من نظام Swift للرسائل بين البنوك بإجراء والعمل على تجميد نصف الاحتياطيات الدولية للبنك المركزي الروسي (حوالي 300 مليار يورو) من أجل شل عملية إنقاذ العملة الروسية -الروبل. رغم كل الصعاب، فإن النظام المصرفي الروسي صامد، وذلك لأن ضوابط رأس المال والتزام المصدرين بتحويل 80٪ من عملاتهم الأجنبية إلى العملة الوطنية وغيرها من العوامل الأخرى التي أسهمت في الحد من الضرر الذي كانت تأمله دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية. وفوق ذلك كله فقد تعود الروس على مدى تاريخهم الطويل على الأزمات (1988، 1998، 2008، 2014)، لذلك فإنهم لا يندفعون إلى ماكينات الصرف الآلي. بعد الفشل النسبي في هذه الحرب المالية الخاطفة، تنهار العقوبات الغربية المفروضة على قطاع الطاقة في روسيا. كان وزير المالية الألماني قد أكد أن «شحنات الغاز الروسي ليست قابلة للاستبدال على المدى القصير»، وأن مقاطعتها «تضر بنا أكثر من روسيا»، وهو ما رد عليه مدير مركز الطاقة في معهد ديلور بقوله: «كذبة كبرى لا غبار عليها»، من دون تقديم تفاصيل عن الموردين الآخرين المتاحين. يشير هذا الخبير الاقتصادي إلى أن ألمانيا غير قادرة على «التخلي عن نقطتين من الناتج المحلي الإجمالي لإنقاذ حياة الأوكرانيين». يمضي الوزير الألماني قوله: «أهم شيء هو أن فلاديمير بوتين لم يعد لديه أموال لشن حربه». تم تبني حظر الطاقة في أبريل ومايو - بشكل فوري على نسبة 90٪ من النفط، مع عقوبات متدرجة على الغاز. لقد أسقط في أيدي الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية عندما تبين أن روسيا قد استفادت من ارتفاع إيراداتها من صادرات الطاقة. دفعت الحرب الروسية في أوكرانيا الدول الغربية إلى الهرولة بحثا عن الموردين البدلاء (النرويج، الجزائر، الولايات المتحدة). ونتيجة لذلك، أدى ارتفاع الأسعار إلى تعويض الانخفاض في أحجام الصادرات. بالنسبة إلى النفط وحده، تكسب موسكو 20 مليار دولار في المتوسط شهريًا في عام 2022 مقارنة بمبلغ 14.6 مليار دولار في عام 2021. تقول إلينا ريباكوفا، نائبة كبير الاقتصاديين في معهد التمويل الدولي ومقره واشنطن: «تسبح روسيا في السيولة المالية.. لقد توقع الغرب في شهر فبراير 2022 هبوط العملة الروسية وحدوث توترات بشأن الاحتياطيات، واحتمال انهيار كامل للنظام المالي الروسي.. لقد انتعش سعر النفط والغاز بالروبل، وتم تبادل الروبل من نهاية شهر أبريل إلى مستواه قبل الحرب بقيمة 80 روبل للدولار الواحد. إن التأثيرات الناجمة عن العقوبات قد أحدث ارتدادات تسبب في ازدياد التوترات في الاتحاد الأوروبي». ولإنقاذ صناعتها أثقلت سلطات برلين نفسها بالديون بمعدلات تعتبر مريحة إلى حد الآن، على عكس إيطاليا أو اليونان، ما تسبب في توترات في منطقة اليورو. ويتعلق الخلاف أيضًا بالحد الأقصى لسعر الغاز، بدعم من أربع وعشرين دولة، من بينها فرنسا، التي تعتقد أن الأوروبيين قادرون على فرض سعر على مورديهم، وخاصة الأمريكيين. يقول وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير في كلمة له ألقاها في الجمعية الوطنية الفرنسية: «يجب ألا ينتهي الصراع في أوكرانيا بالهيمنة الاقتصادية الأمريكية وإضعاف الاتحاد الأوروبي. لا يمكننا قبول أن يبيع شريكنا الأمريكي الغاز الطبيعي المسال بأربعة أضعاف السعر الذي يبيعه به لصناعيه». ترفض ألمانيا والدنمارك وهولندا الحد الأقصى، خوفًا من تحويل التدفقات من السوق الأوروبية المتعطشة للغاز. يبدو أن هذا الوزير الفرنسي قد تأخر كثيرا في اكتشاف هذا الأمر. من دون شك، لم تواجه روسيا الأسوأ حتى الآن، إذ من المرجح أن يضعف اقتصادها من الناحية الهيكلية. فيما يتعلق بالهيدروكربونات، لن تتمكن آسيا إلا من امتصاص جزء من إنتاج روسيا من نفط وغاز طبيعي. هذا ما يقوله الخبراء والمحللون والسياسيون في البلدان الغربية. تظل سلطات بكين مترددة بشأن مسألة تخفيف الحظر المفروض على التقنيات الغربية، ذلك أن الصين لا تريد أن تخاطر حقا بتعريض نفسها للانتقام الأمريكي، فيما يدعو رئيس الدبلوماسية الأوروبية جوزيب بوريل إلى دور ما يسميه «الصبر الاستراتيجي». لكن هل سيتمكن الغرب من فرض عقوبات «فعالة» عندما يشتد الركود الروسي في عام 2023؟ كل هذا يتوقف على الهدف المنشود: هزيمة عسكرية روسية؟ نهاية نظام السيد بوتين؟ لست متأكدا من أن سلاح العقوبات التي فشلت في إيران أو كوريا الشمالية ستنجح في روسيا، وخاصة أن بعض الدول ترفض القطع المنظم للاقتصاد الروسي الذي يأتي في المرتبة الحادية عشرة في العالم. على الرغم من التقارب مع واشنطن، بسبب التنافس مع الصين، أضافت نيودلهي إلى مشترياتها التقليدية من الأسلحة طلبيات ضخمة من النفط الروسي (ما يقرب من مليون برميل يوميًا). أما السياسة الإنتاجية التي تنتهجها منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك بلس) فأثارت حفيظة الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن الخبراء والمحللين يعتبرون أن سياسة أوبك ترمي إلى إفشال المساعي الرامية إلى تسقيف أسعار النفط والغاز الطبيعي. يذكر أن منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك بلس) قد اتخذت قرارا بتقليص إنتاجها. من خلال فرض العقوبات على روسيا، التي تعد ثاني أكبر مصدر للنفط في العالم وأحد الموردين الرئيسيين للمنتجات الأساسية، مثل الأسمدة والقمح، فقد ألحقت سلطات واشنطن وحلفاؤها الضرر بالدورة الدموية للاقتصاد العالمي. لقد اعتبر صندوق النقد الدولي في دراسة حديثة صدرت مؤخرا أن «التكامل العام للأسواق قد أدى إلى توسيع القنوات التي من خلالها تنتقل الصدمات الناجمة عن هذه العقوبات إلى الاقتصاد العالمي...». ومن غير المستغرب أن الدول الناشئة وتلك المستوردة للسلع الأساسية هي التي لم تنضم إلى العقوبات المفروضة على روسيا، ذلك أن هذه البلدان تعتبر الأكثر تعرضًا من خطر حدوث أزمة خطيرة في ميزان مدفوعاتها، إذا ظلت الصادرات الروسية تحت الضغط فترة طويلة. نتيجة ذلك، تتضاعف طرق الالتفاف على العقوبات والقيود، عبر دول غير متحالفة مع واشنطن، ما يجعل هدف عزل روسيا بإحكام وهميًّا. اعتبر الرئيس البرازيلي اليميني السابق جاير بولسونارو في تصريح أدلى به في بداية شهر أكتوبر 2022: «... لكننا لا نعتقد أن أفضل طريق هو اعتماد عقوبات أحادية الجانب وموجهة، بما يتعارض مع القانون الدولي». لقد أعاقت هذه الإجراءات، أي العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، انتعاش الاقتصاد العالمي بعد تراجع حاد بعد جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد -19) إذ إنها تنتهك مبادئ وقيم حقوق الإنسان للسكان المعرضين للخطر، بما في ذلك في الدول الأوروبية نفسها. دعا الرئيس السنغالي ماكي سال، خلال لقاء جمعه بنظيره الروسي فلاديمير بوتين - واعتبرته سلطات باريس بالفعل بمثابة الاستفزاز- الغربيين إلى استبعاد قطاع الغذاء من محيط عقوباتهم المفروضة على موسكو، محذرا من أن هذه العقوبات تشكل «خطرا يتهدد الأمن الغذائي للقارة الإفريقية»، لينسج بذلك على منوال منظمة الأمم المتحدة التي حذرت مرارا وتكرارا من «احتمال حدوث إعصار مجاعات». عانى ما يقرب من عشرين مليون أفغاني من انعدام الأمن الغذائي الحاد منذ انسحاب الولايات المتحدة من بلادهم، وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو). ربما لم تنقذ العقوبات حياة العديد من الأوكرانيين، لكنها تقتل بالفعل الكثير من الناس في أماكن أخرى.
مشاركة :