المهرجانات الثقافية والفنية في تونس.. الكثرة وقلة البركة وفرة المهرجانات الثقافية في تونس لم تصنع إلا الرداءة ولم تساهم إلا في إفساد الذائقة علاوة على هدر الأموال، وذلك على عكس ما نشاهده اليوم في بلد مثل المملكة العربية السعودية مثلا. مهرجانات غير ممنهجة ما من منتج زراعي أو صناعي أو تقليدي أو نشاط بشري من التراث المادي أو اللامادي في تونس، إلا وله مهرجان يحتفي به على مدار 365 يوما وربع يوم من العام، وعلى مساحة 164 ألف كلم مربع من البلاد التي تحتل مرتبة متقدمة في العالم من حيث إقامة المهرجانات الثقافية والفنية. المهرجانات تنتشر في تونس كالفطر، ولكن أي فطر؟ فمنه النافع المفيد ومنه الطفيلي الضار، ومنه ما وقع استنباته غصبا عن الطبيعة. يعود هذا “الهوس بالمهرجانات” في تونس إلى أسباب اجتماعية ثقافية متداخلة ومعقدة. هذا الإرث التاريخي أضيفت إليه إرادة سياسية في جعل هذا البلد ذي الموارد الطبيعية المحدودة، مركز استقطاب ثقافي ضمن مشروع أراده الزعيم الحبيب بورقيبة ومن معه استثمارا في الإنسان ورهانا على أجيال تتسلح بالتعليم والثقافة. كل هذا يمكن فهمه واستيعابه في إطار سياسة ثقافية واضحة المرامي والأسباب، إنما أن يقع تحويل وجهتها وأخذها نحو نشاطات اعتباطية وعشوائية باسم الفن والثقافة، فهذا ما آلت إليه الكثير من المهرجانات التي ما تنفك تفرّخ وتتناسل دون هدف واضح. السينما تتعافى على يد جيل جديد من الشباب والشابات على وجه الخصوص، وذلك لأنها غير معنية كثيرا بالمهرجانات الجماهيرية، وتجد ضالتها في الصالات المخملية بمهرجانات أوروبا أحد أهم أسباب هذه الطفرة المهرجاناتية هو المنافع الشخصية والفئوية الضيقة التي تتحكم فيها المصالح وتطغى عليها المحسوبيات في ظل قانون فضفاض ومتساهل في إنشاء الجمعيات التي تحدد بدورها إقامة المهرجانات والملتقيات في مختلف المناطق التونسية. لا نبالغ إن قلنا إنه لا يكاد يوجد منشغل بالشأن الثقافي في تونس، ليس لديه جمعية أو “شركة إنتاج فني” تتقدم بطلبها كل موسم إلى وزارة الثقافة طالبة الدعم المالي والمساندة اللوجستية في إقامة مهرجان ثقافي. هذا فضلا عن هبات جهات أخرى من وزارة الشؤون الاجتماعية ومؤسسات مالية ومنشآت اقتصادية عامة وخاصة، وغيرها ممن يمكن أن يساهم بأقساط تصغر وتكبر بحجم ثقل الجمعية وتشعب علاقاتها وشطارة القائمين عليها في تحصيل الدعم المالي. كثافة النشاطات والتظاهرات وتعدد المهرجانات شمالا وجنوبا، شرقا وغربا إذن، ليست مؤشرا على تعافي الحياة الثقافية في تونس. “لا يوجد قط يصيد الفئران لسواد عيون أصحاب الدار” كما يقول المثل العامي، إذ أن غالبية أصحاب هذه النشاطات ـ وباستثناء النزيهين منهم ـ لا يهمهم إن تطورت الحركة الثقافية في البلاد أم لا، بقدر ما يهمهم ما يصل إلى جيوبهم من أموال عند كل نشاط يصفونه بـ”الفني” و”الثقافي”. الأمر عكسي تماما، فالتظاهرات الفنية ذات المستوى المحترم والرفيع، والتي تحترم ذائقة الجمهور وتحاول أن ترتقي بها، من شأنها أن تهدد “بضاعة” هؤلاء الذين يشبهون متعهدي الحفلات، لا أكثر ولا أقل. لا يختلف اثنان، وخاصة داخل المحيط العربي، أن تونس تغدق العطاء على الثقافة والفنون بسخاء كبير، وبحسب إمكانياتها طبعا، لكن الأموال المرصودة تذهب إلى غير أهلها، وللأسف الشديد. الأمر يعود إلى فساد يستشري في كافة الأجهزة والمؤسسات المعنية بالنشاطات الفنية والثقافية، بالإضافة إلى ضبابية الرؤية وانعدام الإستراتيجية المنظمة لكافة الهياكل المعنية. النتيجة كانت كما هو متوقع، كمّا هائلا من المهرجانات ومحصولا هزيلا من الفائدة الثقافية والفنية، مع استنزاف للميزانية المخصصة، والتي هي أصلا من جيوب دافعي الضرائب الفقراء على وجه التحديد. وإذا ما اكتفى التونسي الذي اعتاد مقارنة بلاده بالعالم الأوروبي، بالنظر إلى محيطه الإقليمي والعربي، يجد نفسه قد تخلف عن ركب التنمية الثقافية مقارنة ببلدان مثل المغرب ومصر ودول الخليج العربي التي انطلقت في هذا المجال بصفة صاروخية غير مسبوقة. اليوم، يجد التونسي الذي طالما تباهى بريادة بلاده في المجال الثقافي، واقعا مأزوما وبائسا بعد أن كان محط إعجاب وتثمين. الحقيقة أن وفرة مثل هذه المهرجانات الثقافية في تونس لم تصنع إلا الرداءة، ولم تساهم إلا في إفساد الذائقة، علاوة على هدر الأموال، وذلك على عكس ما نشاهده اليوم في بلد مثل المملكة العربية السعودية مثلا، والتي ستصبح في المدى المنظور، قطبا فنيا وثقافيا مدهشا، لا على المستوى العربي فقط بل على مستوى العالم بأسره. يقول المثل التونسي في مقاربته للوفرة غير النافعة “الكثرة وقلة البركة”، ويزيد عنه للتدليل على أن تعدد المشارب يتوّه صاحبه بمثل أكثر مكرا وطرافة وهو “كثرة المرعى تُعمي الدابة”. وبعيدا عن طرافة هذه المقاربات المضحكة لواقع مؤلم، فإن كثرة المهرجانات غير الممنهجة، والمبنية على الفوضى التي تفسح المجال للرداءة وانحطاط الذائقة، من شأنها أن تصيب الثقافة بالعقم في بلد يفخر بأنها من أهم إنجازاته. المهرجانات تنتشر في تونس كالفطر، ولكن أي فطر؟ فمنه النافع المفيد ومنه الطفيلي الضار، ومنه ما وقع استنباته غصبا عن الطبيعة أما على الصعيد الدرامي في مجالات المسرح والسينما والتلفزيون، فإن فوضى المهرجانات قد أثرت سلبا على هذه القطاعات، وإن كان على مستويات متفاوتة. المسرح مثلا، وبالإضافة إلى أنه فن يغرق على الصعيد العالمي ويبعث برسائل الاستغاثة من تحت الماء، فإن حمى المهرجانات الصيفية في تونس قد حولته إلى دور المهرج الذي يستجدي الضحكات والقفشات، ويقف على عتبات منظمي الحفلات في هيئات رثة وبائسة كانتشار ما يعرف بـ”وان مان شو”. السينما تتعافى على يد جيل جديد من الشباب والشابات على وجه الخصوص، وذلك لأنها غير معنية كثيرا بالمهرجانات الجماهيرية، وتجد ضالتها في الصالات المخملية بمهرجانات أوروبا، على الرغم من استمرار مسلسل البحث عن الدعم والاقتتال من أجله في أروقة وزارة الثقافة. أما الإنتاج الدرامي التلفزيوني فما زال يحضر مع أطباق رمضان وعصائره كالعادة، لكنه شهد نقلة نوعية بفضل إنتاجات جريئة وتغدق العطاء. وظل محل متابعة عريضة أدارت ظهرها للأعمال المصرية والتركية المدبلجة، لكنه محل جدل من حيث الموضوعات المطروقة وكذلك ظروف الإنتاج التي تبدو سخية على الرغم من أنها تغولت وقتلت المشاريع الصغيرة والطموحة. المشكلة في النهاية تكمن في التسويق الذي عجز حتى عن تغطية المنطقة المغاربية على الرغم من أن اللهجة التونسية لا غبار عليها في المنطقة. والمعضلة الأخرى أيضا أن العامية التونسية تخطت حواجز الحدود العربية في الغناء، ووقفت عاجزة عندها في الدراما، وهو كسل حاصل من الجهتين، فلا المشرقي يبذل بعض الجهد، ولا التونسي يقدم بعض التنازل.. وتلك معضلة عويصة أخرى. حكيم مرزوقي كاتب تونسي
مشاركة :