تاريخ كرة القدم الإسبانية ينقسم إلى عصرين ما قبل وما بعد 2008. ما قبل 2008 كانت النظرة لمنتخب إسبانيا تختلف كليا عما ينظر إليه حاليا، 2008 إسبانيا كانت تملك منتخبا متوسط القوة على الرغم من قوة الدوري وأنديته على المستوى القاري ولكن منتخب بلا إنجازات كثيرة. منتخب إسبانيا تأسس في عام 1920 وحتى عام 2007 كان إنجازه الوحيد هو التتويج بكأس الأمم الأوروبية مرة واحدة عام 1964 والحصول على المركز الرابع في كأس العالم عام 1950. ومنذ عام 1964 حتى 2007 لم يحقق منتخب إسبانيا أي إنجازات تذكر على الرغم امتلاكه للاعبين جيدين على مر الأجيال وأندية قوية هم أصحاب الرقم القياسي في البطولات القارية. ولكن ما بعد 2007 وحتى 2012، حقق منتخب إسبانيا بطولة كأس الأمم الأوروبية مرتين وكأس العالم للمرة الأولى في تاريخه ليحقق نسبة فوز 100% من البطولات التي شار ك بها خلال تلك الفترة. وخلف الاحتكار الإسباني للإنجازات رجلين أحدهما بدأ نهضة الكرة الإسبانية والآخر أكملها على أكمل وجه. مع تولى لويس أراجونيس تدريب منتخب إسبانيا، الوضع لم يتغير بشكل كبير على مدار 4 سنوات خلالهم أقصي من دور مجموعات يورو 2004 ودور الـ 16 في كأس العالم 2006. وفي 2008 ومع ظهور بعض المواهب الجديدة في إسبانيا مثل فيرناندو توريس ودافيد فيا مع وجود بعض اللاعبين الكبار مثل راؤول جونزاليس وإيكر كاسياس، تمكن أخيرا ذلك الجيل من تحقيق المعجزة والتتويج بيورو 2008 تحت قيادة أراجونيس ليحقق اللقب الكبير الأول بعد غياب 44 عاما. بعد البطولة كانت المفاجأة وهي رحيل أراجونيس عن تدريب إسبانيا بعد تحقيق الإنجاز. رحيل أراجونيس كان بمثابة الصدمة خصوصا وأن المدرب حقق في عامه الأخير ما لم يحققه على مدار أربع سنوات وما لم يحققه المنتخب بالكامل على مدار عقود ووضع إسبانيا على خريطة كرة القدم الأوروبية من جديد. البعض قال إن أراجونيس هو من أراد الرحيل والبحث عن فرصة أخرى ولكنه كشف عن الحقيقة في النهاية وتحدث عن الأسباب الحقيقية. المدرب المخضرم تحدث عن سبب رحيله في صحيفة ماركا قائلا: "أنا لا أتقبل كلام الذين يقولون إنني كنت أرغب في الرحيل ولكن اعترف أنني قلت إن كل شخص لديه موعد ليبيع ولكن بسبب وجود أي حركة منهم". وتابع "الاتحاد الإسباني لم يريدني كمدرب ولو كانوا يريدونني لما تحدثوا مع مدرب آخر وأنا لا زلت أعمل". الرجل الذي تحدث عنه أراجونيس كان فيسينتي ديل بوسكي وهو من تولى تدريب إسبانيا خلفا لديل بوسكي. وإن كان أراجونيس هو صاحب بداية نهضة منتخب إسبانيا فإن ديل بوسكي هو من أكمل النهضة وزينها بالعالمية. عند تولي ديل بوسكي تدريب إسبانيا كان اسمه معروفا للجميع بالفعل كونه أحد أهم المدربين في تاريخ ريال مدريد والذي حقق سبع ألقاب مع الفريق خلال فترة زمنية قصيرة وهو قائد فترة الجالاكتيسكوس في النادي الأبيض. مهما كان نجاح ديل بوسكي السابق ولكن الضغوطات والشكوك لا بد أن تحاوط مدرب سيخلف واحد من أنجح المدربين في تاريخ إسبانيا والذي حقق الإنجاز الأوروبي. ديل بوسكي حسم الأمر قبل مباراته الأولى في تصفيات كأس العالم وتحدث عن ضرورة الحفاظ على الهدوء والتحلي بالثقة. وقال ديل بوسكي خلال مؤتمر صحفي قبل مواجهة أرمينا: "نحن ألد أعداء أنفسنا، المنافسون يحاولون اتخاذ التدابير الكفيلة بإيقافنا ولكن الفوز باللقب الأوروبي أعطانا الثقة والمهارة للتعامل مع هذه المباريات المغلقة". وبسهولة متوقع تأهل منتخب إسبانيا لكأس العالم 2010، ليدخل البطولة لأول مرة منذ زمن حاملا للقب بطل أوروبا. إسبانيا كانت منتشية بالعديد من المواهب وأيضا بوجود جيل قوي لبرشلونة هو الأقوى في تاريخ النادي بقيادة بيب جوارديولا ومع الذي طور لاعبين مثل أندريس إنييستا وتشافي هيرنانديز ليكونا من الأفضل في تاريخ كرة القدم. ولأول مرة سيدخل منتخب إسبانيا البطولة وسط آمال كبيرة بتحقيقها بعد التتويج باليورو وكأحد المرشحين الكبار. قبل البطولة شدد ديل بوسكي على أن إسبانيا ليست المرشح الأبرز للتتويج باللقب. وقال ديل بوسكي: "كأبطال لأوروبا ترانا الناس من المرشحين للتتويج بكأس العالم ولكن هناك العديد من القوى الأخرى، مثل الأرجنتين والبرازيل وإنجلترا وفرنسا وأيضا إيطاليا وألمانيا". بداية إسبانيا لم تبشر بالخير ويبدوا أن كلام ديل بوسكي قد بدأ في التحقق وتعرض للهزيمة في أول مباراة بدور المجموعات أمام سويسرا. ديل بوسكي قام بتحية سويسرا على الأداء عقب نهاية المباراة لأنه لم يجد الحلول لاختراق دفاعاتهم. وقال المدرب السابق لريال مدريد خلال المؤتمر الصحفي: "ما قدمناه يرسل إشارة سيئة للمنافسين ولكن يجب أن نرد وأن نحاول الفوز في المباراتين المقبلتين". وبالفعل حقق منتخب إسبانيا الفوز في الجولتين التاليتين على هندوراس وتشيلسي ليتأهل كأول للمجموعة. في دور الـ 16 لعب منتخب إسبانيا ضد البرتغال، مباراة صعبة حسمها دافيد فيا بهدف في الشوط الثاني ليسجل هدفه الرابع في البطولة. ربع النهائي على الورق كان سهلا نسبيا بمواجهة باراجواي ولكن لأن المباريات الإقصائية لا تحسب بتك الطريقة فإن المباراة كانت صعبة جدا في الحقيقة. لمدة طويلة عجز منتخب إسبانيا عن اختراق دفاعات باراجواي والوصول للمرمى، وأصبحت المباراة أصعب بعدما أهدر تشابي ألونسو ركلة جزاء في الدقيقة الـ 63. وفي وقت متأخر من المباراة ظهر البطل دافيد فيا من جديد ليسجل هدفا قاتلا في الدقيقة الـ 83. ديل بوسكي وصف المباراة بأنها الأصعب في مشوار البطولة حتى الآن ولكنه في النهاية نجح في معادلة الإنجاز الأبرز في تاريخ إسبانيا بكأس العالم بالوصول إلى دور نصف النهائي. في نصف النهائي كانت تنظر منتخب إسبانيا مواجهة نارية على نظريا وفعليا لأنه كان سيواجه ألمانيا وهو المنتخب الذي حقق على حسابه لقب يورو 2008. ديل بوسكي تحدث خلال المؤتمر الصحفي للمباراة وقال: "نعرف إننا نلعب بشكل جيد ولكن الآن نريد كتابة التاريخ". كتيبة ديل بوسكي تمكنت بالفعل من كتابة التاريخ بهدف من كارليس بويول في الشوط الثاني برأسية أهلت إسبانيا لنهائي كأس العالم لأول مرة في تاريخه. المباراة الأصعب والأقوى والأهم في تاريخ إسبانيا كانت في مواجهة هولندا في النهائي، منتخبان لم يحققا اللقب من قبل وجاءت اللحظة ليكتب أحدهما التاريخ. تبدأ المباراة الصعبة وتشهد بعض الفرص من هنا وهناك كاسياس يتألق في مرة بتصديه لانفراد من أريين روبن ومرة أخرى يتألق مارتن ستكلنبرج حارس هولندا. وتتجه المباراة إلى الأشواط الإضافية، الحكم أشهر بطاقة حمراء لجون هيتينجا لاعب هولندا. وقبل نهاية المباراة بثلاثة دقائق فقط، ظهر أندريس إنييستا من العدم لينفرد بمرمى ستكلنبرج ويسدد بقوة في الشباك محرزا الهدف الأهم في تاريخ إسبانيا ليحتفل برفقة جميع اللاعبين الذين ركضوا نحوه. ثلاثة دقائق فقط وأطلق الحكم صافرة النهاية ليكمل ديل بوسكي مشواره التاريخي كمدرب أسطوري، الرجل الذي حقق كل شيء مع ريال مدريد من قبل عانق الذهب العالمي بالتتويج بكأس العالم. ديل بوسكي تحدث عقب التتويج قائلا: "أنا هنا للحديث عن الأشياء الجميلة في كرة القدم، لقد كانت مباراة صعبة وعنيفة حتى في بعض الأحيان ولكن الجائزة اليوم كانت لكرة القدم الجميلة". بعد كأس العالم كان ديل بوسكي على موعد مع إنجاز جديد لاستمرار إسبانيا في ريادة كرة القدم الأوروبية والعالمية بالتتويج بيورو 2012 للمرة الثالثة في تاريخ إسبانيا والثانية على التوالي. بتتويجه بيورو 2012 أصبح ديل بوسكي قد "قفل اللعبة" بالمعنى الحرفي بتتويج بجميع البطولات الكبرى الممكنة. بعد الوصول لأبعد مدى ممكن ولأعلى نقطة في مجد، جاء الوقت لبداية الانهيار. الوقت جاء للمشاركة في كأس العالم 2014 وتلك المرة سيدخل منتخب إسبانيا كمرشح فوق العادة والاسم الأبرز لتحقيق اللقب بناء على ما حققه خلال الأعوام الماضية. البداية كانت كارثية بالهزيمة أمام هولندا بخمسة أهداف مقابل هدف واحد بنتيجة كانت خير انتقام من هزيمة هولندا في نهائي النسخة الماضية من كأس العالم 2010. ديل بوسكي رفض تحميل اللاعبين الخسارة قائلا: "هذا ليس وقت الإشارة بأصابع اللوم جميعنا يجب أن نلام. وأعطى ديل بوسكي وعدا بالقتال من أجل الفوز بالمباراتين المقبلتين، وهو نفس الوعد الذي أطلقه عقب الخسارة من سويسرا في بداية كأس العالم 2010 وحقق اللقب بعده. المباراة التالية كانت أمام تشيلي وهو خصم واجهه في مجموعات نسخة 2010 أيضا وفاز عليه بسهولة، ولكن تلك المرة الأمر اختلف. استمر أداء إسبانيا المحبط للمباراة الثانية على التوالي ليسقط أمام تشيلي بهدفين دون مقابل، لتحل الكارثة بطل العالم يخرج من دور المجموعات رسميا لأن تشيلي وهولندا وصلوا للنطقة السادسة. بعد الخروج الكارثي خرجت بعد الشائعات قبل مباراة أستراليا الاخيرة في المجموعات عن حدوث مشادة بينه وبين فابريجاس وطرده من التدريبات. المدرب لم ينفي المشادة ولكنه نفى الطرد بل وهاجم سلوكيات اللاعبين أيضا. ديل بوسكي قال خلال المؤتمر الصحفي قبل مواجهة أستراليا: "لم أطرد أحدا، فقط كان هناك فريق متأخر في النتيجة والفريق الأخر عدده أكبر، فحاولت دعم المهزومين بشابي ألونسو". وتابع "أنا أفكر فقط في اللاعبين، بينما هم يفكرون في أنفسهم دون أي شيء آخر، لقد كان الإقصاء مستحقا". في مواجهة أستراليا الفوز كان حليف إسبانيا بكل سهولة بثلاثية وقع عليها دافيد فيا، وفيرناندو توريس، وخوان ماتا ولكنها لم تكن كافية لمحو آثار الحزن والصدمة من خروج بطل العالم من دور المجموعات. تلك النسخة كانت الأخيرة لديل بوسكي والعديد من الجيل الذهبي لإسبانيا الذي قاد المنتخب لأبرز إنجازاته وكانت وداع حزين لمسيرة مدرب أسطوري خصوصا وإن الحال لم يختلف كثيرا في يورو 2016. قبل 6 أشهر من يورو 2016 أعلن ديل بوسكي أنه سيعتزل عقب البطولة ولكن في حالة موافقة الاتحاد الإسباني لكرة القدم وهو من وافق على رغبته بالفعل. لكن النهاية لم تكن سعيدة بالمرة، في 2016 خرج منتخب إسبانيا مبكرا مرة جديدة ولكن تلك المرة من دور الـ 16 بعد الخسارة من إيطاليا لتكتب النهاية الحزينة في مسيرة ديل بوسكي مع إسبانيا وكرة القدم. مسيرة ديل بوسكي انتهت وربما يراها البعض خروجا من الباب الضيق ولكن النهايات ليست الأهم في كرة القدم ولكن الأمر يقاس على المسيرة بالكامل عقب سنوات من نهايتها ومسيرة ديل بوسكي ستظل محفورة كأحد أفضل المدربين في التاريخ. ديل بوسكي لم يضع إسبانيا على الخريطة ولكنه أكمل رسمة نهضة كرة القدم الإسبانية والتي بدأها لويس أراجونيس وزودها بالألوان لتخرج في أفضل صورة كمنتخب ظل لمدة 6 سنوات مهيمنا على كرة القدم الأوروبية والعالمية بشكل كامل.
مشاركة :