ذهبت إلى أميركا لأول مرة في حياتي في سن السابعة عشرة.. كنت صغيراً وساذجاً ومع ذلك اضطررت للإجابة عن أسئلة أكثر سذاجة في القنصلية الأميركية بجدة (حين حاولت تعبئة استمارة الفيزا بنفسي).. أذكر جيداً أن هناك سؤالاً تكرر بصيغ مختلفة (وكأنهم يريدون الإيقاع بي) مثل: هل كنت عضواً في الحزب النازي؟ هل لك علاقة بأحد أعضاء الحزب النازي؟ هل تخفي أفكاراً نازية تنوي ممارستها في الولايات المتحدة الأميركية؟ .. تكرر بصيغ مختلفة لدرجة بدأت أنا أتساءل إن كنت أحمل أفكاراً نازية، أو يحمل أسلافي جذوراً ألمانية.. غير أنني سرعان ما عدت لرشدي وقلت لنفسي: هل يعلم هؤلاء القوم كم عمري؟ أو يعرفون متى مات هتلر بالضبط!؟ الغريب فعلاً أن معظم هذه الأسئلة لم تتغير ولا تزال استمارة الفيزا الأميركية تحمل أسئلة غريبة ومستفزة مثل استمارات دول كثيرة أخرى.. فاستمارات الحصول على الفيزا تتضمن بوجه عام أسئلة غبية أو محيرة أو تشعرك بالإهانة في حال أجبت عنها.. وخذ من واقع تجربة وخبرة أسئلة حقيقية مثل: هل تعتبر نفسك مجرماً أو خارجاً عن القانون؟ هل تنوى القيام بأي عمل إجرامي داخل الدولة؟ هل تحمل معك أي مخدرات أو ممنوعات أو مواد تصرح عنها؟ هل تنوي القيام بأي أعمال إرهابية أو الانضمام لأي منظمات إرهابية؟ .. وبطبيعة الحال لو كنت مجرماً أو إرهابياً لن تقول (نعم) ولو كنت شريفاً ومسالماً ستخشى أن يتم الإيقاع بك سواء قلت لا أو نعم.. ويا ليت الأمر ينتهي عند هذا الحد؛ فمن المؤسف فعلاً أن يضطر الطفل أو المراهق كما حصل لابني فيصل قبل أعوام أن يجيب عن سؤال شنيع مثل: هل سبق وشاركت في أعمال إبادة جماعية؟ هل سبق وشاركت في جرائم حرب؟ هل تخطط لفعل أي من الأمرين مستقبلاً؟ .. لا أعلم ماذا يتوقعون منه القول.. هل يقول مثلاً: "نعم أفعل ذلك كل صباح" أو "شاركت في مجازر بورما وشغال الآن في مجازر سورية" أو "لم أفعل ذلك ولكنني أنوي المشاركة في الحرب العالمية الثالثة".. ماذا يتوقعون أن تجيب الفتاة المراهقة أو الطالبة المبتعثة عن سؤال قبيح مثل: هل تنوين ممارسة الدعارة أو أي أفعال جنسية بهدف المال؟.. لماذا لا يسهلون عليها الإجابة بالمرة ويقدمون ثلاثة خيارات أساسية: "في آخر الشهر فقط" / "حين لا يبعث أهلي المصروف" / "في حال ارتفعت أقساط الجامعة"! وحين تملأ استمارة الفيزا لطفلك الذي لم يدخل المدرسة بعد (مثل ابني ياسر) كيف ستجيب عن سؤال كهذا: هل شاركت بين عامي 1933 و 1945 في أعمال الإبادة التي وجهت لليهود في المعسكرات النازية؟ هل يتوقعون منه أن يقول مثلاً: "لا، شاركت فقط في أعمال الإبادة الموجهة ضد الغجر" أو "نعم، كي لا يذهبوا لفلسطين" أم يكتفي بالقول: "أكيد، فعمري الآن تجاوز المئة والعشرين"؟ أما أجمل سؤال يمكن أن يأتي في نهاية أي استمارة (وهو حقيقي بالمناسبة) فهو: هل تعاني من أي مشكلات عقلية أو نفسية مزمنة؟ لولا الملامة لقلت: "نعم؛ مثل الخبير الذي صاغ هذه الأسئلة ويتوقع أن أجيب عنها بصراحة؟".
مشاركة :