جاءت المطالبة بـ«القطيعة التاريخية»، من قبل بعض الباحثين والمفكرين المشاركين في مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة، موضوعاً استدلالياً على الإشكالية الكُبرى في إمكانية خلق المعنى، وسط عجز تاريخي عن إنتاج مضامين فلسفية مُلهمة للواقع الراهن، بل وقد تدفع بتجربة الإنسان العربي، نحو فضاءات الممكنات، المنسجمة مع القوة الذاتية للفرد، باعتبارها محركاً صافياً لتجربة الحسّ والاكتشاف اللحظي، دونما تراكم ماضوي، يحد من فكرة الذهاب إلى المجهول، كونه يفتقد للبنى الثقافية والاجتماعية المتعارف عليها علمياً وفكرياً، والتي عادةً ما تتكئ عليها المجموعات ومنها الفلاسفة العرب المعاصرون لرسم التصورات ومآلاتها. سيرورة الوعي إلا أن مفاهيم القطيعة بمداها الأوسع، تتطلب أن نفكر في بناء البنى عبر التجربة الخالصة، لا المفاهيم والنمذجة فقط، أي أن نجعل من الناس العاديين، فلاسفة كذلك، وفقاً لسيرورة الوعي، وحاجة الإنسان إلى التعبير والفهم، دون أن يقيد «المعنى» قابلية تحرر الهويات بكافة أشكالها المجتمعية والسياسية والاقتصادية والدينية، والتي يتصارع كل منها للحفاظ على مركزيته في التجربة الإنسانية. وقد شهد مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة، في يومه الثاني بعض تلك السجالات الفكرية والتساؤلات حول «سلطة المقدس في الراهن العربي»، و«الفلسفة والإصلاح السياسي»، وجميعها مشكلات فلسفية، قد لا يسهل تجاوزها دون التخلي عن مكامنها الثقافية، ووضعها محطاً لسؤال، لا منطلقاً للإجابة. المعرفة التاريخية وقدم الكاتب والمفكر د. محمد محجوب، أستاذ التعليم العالي متخصص في التأويلية وتاريخ الفلسفة في جامعة تونس، ورقة بحثية حول «مشكلات الفلسفة العربية الراهنة»، مبيناً أن ما يظل محدداً هو تفكيرنا نحن الذين نستعيد تاريخ فكرنا: ونحن بإزاء هذه الوضعية، وبالنظر إلى هذا الغرض، نفكر بهؤلاء الذين يكونون معطى لتفكيرنا، وذلك باستنطاق عنصر الكلي فيهم، وما ينبغي فعله هو إدراج مفكرينا كحدوس تتجاوز انتماءها إلى الإرث المحلي لتكون بكل بساطة مفكّرةً، وتابع: «إن القضية الكبرى مفادها أن المقالة الفلسفية إنما تؤخذ بمقولها لا بافتراضها»، معتبراً أن الاضطلاع بتاريخ الفكر عندنا ليس راجعاً إلى الطبيعة التاريخية لهذا الفكر، وإنما راجع إلى كون المعرفة التاريخية كانت ولعلها لا تزال هي المعرفة الوحيدة الجاهزة والعلمية التي يمكنها استيعاب تاريخنا الفكري وتلقيه وتحقيبه وتنزيله في السياق الوحيد الممكن لها، أعني سياق التاريخ السياسي والاجتماعي. ولذلك يتطلب التفكير عندنا وتتطلب الفلسفة نزع مطلقية التاريخ على المعنى الذي تحدث به مثلاً موريس ميرلو بونتي في تقريظ الحكمة. إن فرض التاريخ على أنه هو العلم الجامع يجعل التعامل مع الفكر لا يتجاوز اعتباره أثراً وانعكاساً للأشياء». واقترح د. محمد محجوب أن نحاور وجوه الفكر العربي ليس فقط من زاوية القضايا والمفهومات التي يجعلونها ممكنة لدينا، ولكن كذلك من زاوية الإيماءة الفريدة التي تخص كل واحد منهم، ولذلك علينا أن نحاورهم بمعاصرتنا وبمشاكلنا لا بوصفهم أصحاب حلول وإنما بوصفهم شهوداً نستدعيهم إلى مقام البينة وتقديمها. أصعب المفاهيم ومن جهته اعتبر الفيلسوف المصري د. حسن حماد، أستاذ الفلسفة المعاصرة وعلم الجمال والعميد الأسبق لكلية آداب الزقازيق وأستاذ كرسي الفلسفة لليونسكو فرع الزقازيق، أن حالة الحضور القوي لسلطة المقدس، مخيفة ومرعبة عندما تهيمن على الجموع، وهو سؤال صعب، كون المقدس يعتبر من أصعب المفاهيم وأكثرها التباساً وغموضاً لدى البعض، والإشكالية الأبرز هنا تكمن في مُشكل الفصل التام بين المقدس والدنيوي، ما قد يحدث حالة استرخاء عقلي، من خلال إجابات جاهزة يقدمها في الأشكال التي يعبر عنها والظواهر التي ينتجها، وبالتالي لا تعطي فرصة للسؤال والعمل والإبداع. ولفت د. حسن حماد أنه لا يستطيع تغيير الواقع، والحل يكمن في الوعي، حتى لو جنينا أثره بعد سنوات طويلة، فالمهم أننا نتناوله بشكل فعلي وواضح، ضمن مناقشة لمفهوم الـ«تابُو» أي الأمر الذي لا يمكن المساس به أو أنه محذور مسّه. استقبال الذات وكانت «الممكنات القابلة للتحقق في العالم العربي»، عنواناً لمداخلة د. خالد كمّوني، الباحث في فلسفة اللغة العربية، الذي أوضح أن أول لحظة في وعي الممكن هي إدراك أهمية الراهن في استقبال الذات، أي إدراك وضع الوجدان في المكان، وهو الحدس بإنجاز فكرية الواقع. إن ما يجب أن يجري هو عدم تبرير الواقعة، كأنها حدثت بغير علم الإنسان وقصده، بل تحمل مسؤولية الفعل، لمعرفة إمكان تجاوزه إلى فهم أرقى يليق بإيراد الكينونة، كينونة الإنسان الإبداعية في العالم، مفسراً أن الأفكار التي لا يمكن تجربتها ليست فعلاً، ولذا تتشوه طرق تلقيها، ما بين الإهمال والتقديس، وتنشأ التطرفات وتغيب الممكنات، أي تتلاشى الحرية، وإن ما يدفعنا إلى بحث الممكنات في عالمنا العربي هو الإحساس بأن العربي كائن ممكن الوجود في هذا العالم، شرط ألا يأتي إلى لحظة الإمكان مكتملاً بما كان، محدد الهوية خائفاً من الزوال، بل يجب أن يكون ليكون، عليه إيراد الكينونة ليوجد، إن السلوك الدفاعي الدائم لا ينتج إبداعاً، إن الهوية في الآنية، هنا الآن أنا. وتركزت الورقة البحثية للكاتب والمترجم د. أنور مغيث، مدير المركز القومي للترجمة بالقاهرة، حول «الفلسفة والإصلاح السياسي»، وأطروحته حول الاهتمام النقدي والبحثي الذي ناله كتاب «جمهورية أفلاطون»، وتعريفاتها للعدالة والفضيلة، مشيراً إلى الظروف التي تمر بها «الديمقراطية» المعاصرة، من محاولة لزعزعة ثقة المواطنين فيها، بعد أن شهدت بعض أكبر الانتخابات في العالم تزويراً أحياناً ودعماً من شركات كبرى، دفعت إلى ظاهرة عامة لعدم الرغبة في التصويت من شعوب مختلف دول العالم، الذين شعروا بأنها بمثابة تمثيلية لا يودون المشاركة فيها، إضافة إلى اقتران نظام الرأسمالية بالديمقراطية، وما أنتجه من تحديات وأزمات ذات علاقة بالطبيعة والمتغيرات المناخية.
مشاركة :