لا تزال أسئلة العلاقات التركية – المصرية بعد المصافحة التي جرت بين الرئيسين عبدالفتاح السيسي ورجب طيب أردوغان في قطر مستمرة حول مستقبل علاقة جماعة الإخوان بأنقرة والكيفية التي يمكن أن تتعاطى بها مع التطورات الجديدة والمتسارعة. واقتضت تلك المصافحة التمهيد لها بخطوات إثبات حسن نوايا وجدية في التقارب، حيث اتخذت السلطات التركية إجراءات أكثر صرامة مع قادة وعناصر الإخوان مؤخرا. سعت جماعة الإخوان عبر أجنحتها الثلاثة المتصارعة إلى إفشال مسار التقارب بين تركيا ومصر من خلال إطلاق دعوات للتظاهر والحشد في الحادي عشر من نوفمبر، وهو ما أسهم النظام التركي في إجهاضه من خلال تقويض تحركات العناصر المحرضة عليها والمقيم عدد كبير منها في إسطنبول حيث بات متيقنا من أن التنظيم يقتاد على إفساد العلاقات بين البلدين. وأكد مستوى الإجراءات التي اتخذتها الأجهزة الأمنية التركية ضد عناصر الإخوان والناشطين الموالين لها لتظاهرات نوفمبر على جدية النظام التركي في غلق صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة مع القاهرة، وهو ما مهد الأرضية لعقد اللقاء بين الرئيسين ومصافحتهما العلنية بوساطة قطرية. تغييرات جذرية انطوت ردود أفعال عناصر الجماعة على استشعارها الخطر من تغييرات جذرية في التعاطي التركي معها، وبعد حملات من المداهمات والتوقيفات غير المسبوقة وإلقاء القبض على العشرات ممن ثبت تحريضهم على التظاهر في مصر حفلت العديد من صفحات الإخوان بهجوم على السلطات التركية وانتقادات غير مسبوقة للرئيس أردوغان. وزاد اللقاء الأخير بين الرئيسين، التركي ونظيره المصري، علاقات الجماعة مع تركيا تعقيدا، بما يضع حدا لمحاولاتها تخريب مسار التقارب وضرب العلاقات المشتركة، علاوة على أنه مؤشر على درجات أعلى من الإجراءات ضد قادة الجماعة ربما تتضمن تسليما لمطلوبين في قضايا جنائية للقاهرة، وقيادات متورطة في تخطيط وتنفيذ عمليات إرهابية، وبعضهم حصلوا على جنسية تركية. النظام التركي ليس من مصلحته التخلي عن جماعة الإخوان فهو بحاجة إليها، وكل ما يقوم به حالياً هو ضبط أدائها وبعد أن كانت تركيا تعارض تصنيف مصر لجماعة الإخوان كتنظيم إرهابي وظلت تعتبرها حركة سياسية سلمية، ألمح وزير الثقافة والسياحة التركي سردار تشام قبل أيام عبر حسابه على تويتر أن الإخوان اخترقتها جماعات عنف (في إشارة إلى داعش) وفقدت مكانتها بسبب الانقسامات. تصريحات بعض المسؤولين الأتراك والإجراءات التي تتخذ بشأن منع رفع إشارة رابعة وشعارات مؤيدة للإخوان في بعض الشوارع والميادين في إسطنبول، إضافة إلى توقيف المنتقدين للنظام المصري والداعين للتظاهر ضده، تشير كلها، إلى عدم التردد في التضحية بالإخوان في سبيل تطوير المصالحة مع مصر. وتتقاطع سيناريوهات الإخوان الأخيرة في تركيا مع تجربة الجماعة مع الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر الذي اعتبرت الجماعة انقلابه عليها خيانة للبيعة، حيث كانت تعتبره أحد كوادرها بالنظر إلى اقترابه في مرحلة مبكرة من التنظيم. وتعاملت الجماعة مع صعود عبدالناصر للسلطة على أن أحد كوادرها هو الذي يحكم، ولذا شرعت في فرض الإملاءات والشروط بشأن فلسفة الحكم بحسب تصوراتها المغلقة وبشأن مستوى تمثيلها في السلطة، وهو ما رفضه عبدالناصر، ما قاد للانفصال والصراع مرورا بمحاولات اغتياله وانتهاء بالقضاء شبه الكامل على التنظيم واعتقال غالبية أعضائه وقادته. وفي حالة تركيا، تعتبر جماعة الإخوان الرئيس أردوغان أحد أهم كوادرها ومنحته ولاء السمع والطاعة كونه صار بمثابة خليفة وزعيم لكل من ينتمي لجماعة الإخوان، ووصفه الراحل يوسف القرضاوي المرجع الفقهي للتنظيم عام 2016 بأنه “سلطان المسلمين”. ولن تقل صدمة جماعة الإخوان على خلفية تحوّل الرئيس التركي ضدها عن صدمتها في عبدالناصر الذي اعتبرته عنصرا منشقا خائنا ولذلك أهدرت دمه وحاولت تصفيته جسديا. ويشترك أردوغان مع رئيس آخر لمصر وهو الرئيس الراحل أنور السادات في أنهما أوصلا جماعة الإخوان إلى مستوى من النفوذ والتمكين جعلها تشعر بأن بينها وبين تحقيق حلمها التاريخي خطوة، وعندما أوشكت على الوصول قطعا أواصر العلاقة ومهدا الأرض للتضحية بالجماعة تحقيقا لمصالح سياسية وقومية أعلى. ولجأت جماعة الإخوان بعد شعورها بتخلي السادات عنها إلى التحالف ضده مع خصومه من اليسار والجماعات الدينية الأكثر تشددا وصولا إلى تكفيره والتحريض على قتله ثم اغتياله في أكتوبر عام 1981. وعلى الرغم من اختلاف الأوضاع في تركيا والإقليم ومصر عما كانت عليه في ثمانينات وخمسينات القرن الماضي، إلا أن الثابت هو أن الجماعة اعتادت استهداف من ساندها ودعمها ثم انقلب عليها، وهو ما وضح في حملة الهجوم التي شنتها عناصر من الجماعة على الرئيس التركي مرددة عبارات الوعيد والانتقام منه. ولن يكون الشقاق وتصعيد التوتر الذي اتخذ إطارا علنيا عبر منصات وحسابات إلكترونية بين جماعة الإخوان وتركيا الخيار الوحيد، حيث من الصعب تحدي التنظيم للأجهزة التركية، ما سيعقد أزمتها ولن يحلها. تركيا والحزب الديمقراطي الأميركي صارا على قناعة بأن مرحلة الإخوان باتت من الماضي أمام قيادات وعناصر الإخوان خيار المغادرة إلى دول أخرى، خاصة أنه سبق أن انتقلت قيادات إخوانية وإعلاميين موالين للجماعة إلى بريطانيا وغيرها، أو البقاء بشرط التماهي مع المستجدات ومسايرة الواقع الجديد. ويمكن النظر إلى بدايات ما يوصف بالهجوم على النظام التركي على أنه انفعال حماسي مؤقت غير مدروس تتبعه وقفات هادئة للنظر في خيارات أكثر رشدا وحكمة، وأقرب لتحقيق مصالح الجماعة. ومن المرجح أن يعاود التنظيم دعواته للحوار لإجراء مصالحة مع القاهرة، والتي ألمح إليها القائم السابق بأعمال المرشد إبراهيم منير قبل وفاته. وتُعد المصالحة مستبعدة في المدى المنظور، لكن لا غنى للجماعة عنها مهما كلفها من تنازلات إنقاذا لمستقبلها في مصر وتركيا أيضا. وستنظر قيادات الجماعة للتحولات الحالية كفرصة سانحة لتحقيق ما فشلت فيه في السابق حيث باتت المصالحة في سياق إقليمي أوسع وتضم رعاتها السابقين، مستغلة حاجة مختلف الأطراف لتهدئة الأوضاع وإعادة الاستقرار والالتفات للمشاكل الاقتصادية وتحسين معيشة المواطنين. وتراهن جماعة الإخوان على استمرار حاجة النظام التركي الحالي إليها في الداخل لأغراض انتخابية مع قرب الاستحقاق الانتخابي الرئاسي المفصلي في يونيو من العام المقبل، مقابل الالتزام خارجيا بعدم الإضرار بعلاقات تركيا بأي دولة أو بمصالحها. وليس في مصلحة النظام التركي عمليا التخلي تماما عن جماعة الإخوان، وهو فقط يمارس نوعا من ضبط أداة الجماعة وإعادة توليفها وبرمجتها لاعتبارات ومقتضيات المرحلة الآنية دون رفع الحماية عنها. التحوّل الأميركي سيكون على جماعة الإخوان تعلم الدروس سريعا سيكون على جماعة الإخوان تعلم الدروس سريعا من الأفضل للجماعة الاستجابة للبرمجة التركية وفقا للسياقات والمعادلات الجديدة، حيث وضح جيدا أن هناك رغبة تركية – مصرية مشتركة لتطوير العلاقات وتفعيل مسار تطبيعها على أعلى المستويات لتصبح على الأقل في نفس مستوى العلاقات الجيدة بين تركيا والإمارات والسعودية. وسيكون على جماعة الإخوان تعلم الدروس سريعا وإدراك حجم المتغيرات الحالية على مستوى التحول في نظرة المسؤولين الأتراك للأحداث منذ يونيو 2013 إلى اليوم، وسيادة منطق مصالح الدول لا للمشاريع التفكيكية ومسارات العسكرة الأيديولوجية والمذهبية. وصارت الأمور أكثر تعقيدا بالنسبة إلى جماعة الإخوان، فالانسجام الظاهر بين مسؤولي الإدارة الأميركية الحالية والقيادة المصرية والذي عكسته فعاليات ولقاءات مؤتمر المناخ بين الجانبين، يعني أن أهم داعمين لمشروع الإسلام السياسي (تركيا والحزب الديمقراطي الأميركي) صارا على قناعة بأن مرحلة جماعة الإخوان يمكن أن تصبح من الماضي، وأن مختلف القوى التي ترغب في التعاون وتعزيز العلاقات مع مصر يلزمها التخلي عن أدوات وأوراق الابتزاز والضغط. وسبق أن لجأت جماعة الإخوان اضطراريا في أوضاع شبيهة لخطط بديلة، عبر الترويج لمظلومية الجماعة، وأنها وصلت إلى هذا الحال بسبب تحالف النظم العلمانية العربية مع القوى الغربية ضدها. وإذا لم تستجب الجماعة للمنهج التركي سريعا وتعاود استخدام نفس خطاب وسياسات مرحلة توظيفها في مشروع العثمانيين الجدد التوسعي الذي تراجع عنه أصحابه، فمصيرها إلى اندثار وإن ظل اسمها يتردد في الإعلام والفضائيات.
مشاركة :