كانت تربية الأفراد في المجتمع السعودي في غالبها الأعم محافظة ومتحفظة. ذات نمط رتيب، اعتيادي، يكرر مقولات نمطية "لو تجري جري الوحوش، غير رزقك ما بتحوش"، و"مد رجلك على قد بساطك"، و"لا تطالع فوق".. وعندما يخرق شابٌ أو شابةٌ السائد الاجتماعي، ويخرج عن التفكير الذي اعتادته العائلة والأقران، ويسعى إلى أن يحقق هدفاً كبيراً، كان يواجه بجيش من المحبطين، وأبسط كلمات قد تقال له "إنت مش قدها"، و"إيش لك بوجع الراس"، و"خلك في السليم أفضل". هذه العبارات التي برمجت العقل الجمعي على مدى أجيال في السعودية، أثرت سلباً في قطاع واسع من الناس، وجعلتهم خاملين! بالتأكيد، ليس جميع السعوديين هم من المستسلمين لهذه الأفكار السلبية، وإلا لما كانت المملكة ما هي عليه اليوم، ولما وجدت "رؤية 2030"، ولما دشنت المشاريع العملاقة التي يجري العمل عليها ببصيرة وتخطيط وصبر وشجاعة غير مألوفة. هذه المقولات التحبيطية، أثبت الوقت أنها مجرد عناوين أطلقها الكسالى، وأصحاب الطموح المنخفض! هنالك اليوم في السعودية روح وطنية تهب قوية، من شمال المملكة إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، تسعى إلى أن تقتلع الثقافة البالية، وتحل مكانها وعياً مدنياً جديداً، يقوم على العلم والابتكار والإنجاز والطموح، وأيضاً الفخر بالانتماء الوطني. السعوديون، ومعهم العرب، عاشوا فرحة عارمة، عندما فاز المنتخب السعودي لكرة القدم على نظيره الأرجنتيني، بهدفين لهدف واحد، في أول مباراة له بكأس العالم المقامة حالياً في دولة قطر. لقد كان يوم الثلثاء 22 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، يوماً تاريخياً لكرة القدم السعودية، يمكن النظر إليه بوصفه علامة دالة إلى تغير مفاهيمي أكبر من الحقل الرياضي وحسب، بل مؤشر إلى التغيير الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الأشمل الذي يجري في المملكة، من دون توقف. لو ركن لاعبو المنتخب السعودي إلى المقولات النمطية القديمة، واعتبروا أنفسهم مجرد هواة صغار أمام المنتخب الأرجنتيني، لكانت النتيجة هزيمة ثقيلة ومذلة. الذي حصل، أن اللاعبين حضروا لكي يقدموا أقصى ما لديهم، بشجاعة وإتقان، وتنفيذ دقيق لخطة المدرب هيرفي رونار؛ لذا، كانت الروح القتالية عالية، ولم يستصغروا ذواتهم أمام ليونيل ميسي ورفاقه. عندما استقبل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لاعبي المنتخب السعودي، في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، طلب منهم أن "يستمتعوا بهذه المباريات الثلاث، وأن يؤدوا مباريات المجموعة من دون ضغوط نفسية يمكن أن تؤثر في أدائهم الطبيعي"، وهو الأمر الذي دفع اللاعبين إلى رفع مستوى الطموح، لأن الأمير خفف عن عاتقهم القلق من أي لوم أو عتب قد يأتيهم من الجمهور أو الإدارة، وتلك ميزة رئيسة في القائد الملهم، الذي يحسن التحفيز، ويجعل البيئة أكثر ملاءمة للعمل، لكي يقدم الناس أفضل ما لديهم. الفوز السعودي على الأرجنتين، هو أيضاً، ثمرة التخطيط الإداري القائم على استراتيجيات بعيدة المدى، وضعتها وزارة الرياضة، وتابعتها مع مختلف الاتحادات الرياضية، وفق ما يتناسب مع كل لعبة، ولتكون على هذه الاتحادات مسؤولية وضع الخطط التفصيلية التي تحقق الأهداف وفق الجدول الزمني المحدد. ليست كرة القدم وحدها محط اهتمام الوزير الأمير عبد العزيز بن تركي الفيصل، بل مختلف الرياضات، والتي يجد المراقب تقدماً فيها، سواء على مستوى المنتخبات العمرية المختلفة، كما حصل من ترشح الفئات السنية الثلاث لمنتخبات كرة اليد السعودية لبطولات كأس العالم، أم الألعاب الفردية، ودفع الفتيات للمشاركة في المسابقات المختلفة، كما وقع في "الأولمبياد السعودية"، فضلاً استضافة المملكة مسابقات رياضية عالمية مثل جائزة المملكة العربية السعودية الكبرى لسباق الفورمولا 1، ورالي داكار.. وسواها. إذاً، هنالك خطط استراتيجية وضعتها وزارة الرياضة السعودية، وأتى الاتحاد السعودي ورئيس مجلس إدارته ياسر المسحل ليطبق هذه الاستراتيجيات ويكيّفها وفق أهداف الاتحاد وإمكاناته، فيما قام المدرب هيرفي رونار بمسؤولية التدريب وتطوير المهارات الفنية للاعبين ووضع الخطط التكتيكية لكل مباراة، واستكمل المهمة مدير المنتخب الأول حسين الصادق بأن أشرف على تطبيق الخطط التي وضعت، وتأكّد من مدى الالتزام بتعليمات المدرب، ما يعني أن هناك منظومة عمل متكاملة لا اجتهادات شخصية أو خططاً ارتجالية. القيادة التي تلهم شعبها، الروح الوطنية العالية، التخطيط والتنفيذ الدقيق، التدريب والالتزام بتعليمات الفريق الفني، والعمل الجماعي؛ كانت التوليفة التي حققت النصر للمنتخب السعودي. إن الأفراح التي عاشها السعوديون والعرب في 22 تشرين الثاني الجاري، سلطت الضوء إعلامياً أكثر على المملكة، حيث تم تناقل خبر فوز المنتخب السعودي في أهم وسائل الإعلام الأجنبية، وبمختلف اللغات، ووصل إلى مليارات المتابعين، ما يعني أن هناك حملة إعلامية – مجانية من دون أي دعاية مصطنعة، وصلت إلى القارات المترامية، ما يجعل هؤلاء المتلقين يبحثون أكثر عن المملكة، وسيشجعهم ذلك على القراءة عنها، وتكوين صورة غير نمطية حولها، وتحفز كثيراً منهم على زيارتها والتعرف إلى ثقافتها. إن العمل والإنجاز الحقيقي، هو أفضل ما يقدم السعودية إلى العالم، من دون الحاجة إلى مبالغات مشاهير السوشال ميديا، أو مدائح الكتابات والحملات الإعلامية التي يتبخر أثرها مع انقضاء مدتها. إن فوز السعودية على الأرجنتين حقيقة تاريخية ماثلة، لن تزول من عقول الجمهور، لذا أثرها النفسي والثقافي وحتى الاقتصادي والسياسي سيكون كبيراً، ويشير بوضوح إلى الإصلاح الإداري الواسع في المملكة. السعوديون اليوم يحق لهم أن يفتخروا بما أنجز منتخبهم الوطني، وعليهم أن يستثمروا هذه الروح العالية في ولوج المزيد من التحديات، وبناء دولة مدنية قوية ومتقدمة، من دون الخوف من المستقبل، ما داموا متسلحين بالعلم والحكمة والصبر والثقة بالنفس، والالتفاف حول القيادة الملهمة، والتمسك بالوحدة الوطنية.
مشاركة :