أظهرت الحرب الروسية الأوكرانية حقائق سوف تكون لها أعمق الأثر في إعادة بناء العالم الجديد في اتجاه إنهاء مرحلة القطبية الواحدة والتحول إلى مرحلة القطبية المتعددة: أولا: إن هذه الحرب المباشرة وغير المباشرة بين روسيا الاتحادية وحلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية قد وضعت حدا للهيمنة الأمريكية خاصة والغربية عامة حيث ظهرت روسيا مجددا كدولة عظمى لا تقل أهمية وقوة عن الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تنفرد بقيادة العالم وحدها تقريبا تأمر وتنهي وتحتل الدول متى شاءت وتسقط الأنظمة التي لا تعجبها متى أرادت ذلك من دون حسيب أو رقيب خارج إطار القانون الدولي من ذلك احتلال العراق وأفغانستان وتدميرهما. روسيا الاتحادية اليوم أثبتت ليس خلال هذه الحرب فحسب بل خلال المواجهة المستمرة منذ 2014 حتى 2022 على الأقل ضمن المواجهة غير المباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي حيث أظهرت روسيا قوة مؤثرة سياسيا واقتصاديا خلال الفترة الماضية حيث نجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في استعادة المجد الروسي وإعادة بلاده إلى الواجهة الدولية ليس فقط بإصلاح النظام السياسي والاقتصادي فقط بل بالعودة القوية إلى المجتمع الدولي خاصة تدخل روسيا وتأثيرها في العديد من مناطق العالم فضلا عن تدخلها في القضايا الإقليمية والدولية ما أوحى للولايات المتحدة الأمريكية والبلدان الأوروبية بأن روسيا الاتحادية تريد استعادة مجد اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية السابق لما قبل عام1991 وهو أمر خاطئ لأن روسيا لا تسير على خطى الاتحاد السوفيتي بل تسير على طريق بناء الدولة الوطنية الاتحادية تستمد قوتها من تاريخها ومواردها المادية والبشرية وطموحها المشروع بأن تحتل مكانة كبيرة في إدارة شؤون العالم والتأثير فيه. ثانيا: إن جمهورية الصين الشعبية كدولة صاعدة قد بنت قوتها على مدار سنوات عديدة من الجهد والتخطيط والنضال والتطور العلمي والتكنولوجي والاستفادة الواسعة من مواردها البشرية والتي حولتها إلى قوة اقتصادية جبارة تعد الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية بل تعتبر اليوم سوقا للعالم ومخزنا له في توفير الموارد والمنتجات الصناعية والتقنية بالدرجة الأولى، هذا إضافة إلى أنها تمتلك قوة عسكرية ضخمة وقادرة على حماية مصالحها الاقتصادية والقومية ولذلك لم تعد الصين ترضى أو تقبل هي الأخرى بأن تكون ذيلا تابعا أو مجرد قوة ثانوية وعليه تبحث عن مكانة ضمن القطبية الجديدة المتعددة وتجد في التوجه الروسي ريادة وشجاعة توافق عليها وتدعمها. ثالثا: إضافة إلى ما أشرنا إليه بشأن القطب الروسي الصيني فإن هنالك قوة وسطية بارزة أصبحت مؤثرة في الاقتصاد العالمي مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا والجزائر والمملكة العربية السعودية بما تمتلكه هذه الدول من قدرات كبيرة تجعلها تطمح بشكل مشروع إلى أن تكون مؤثرة في السياسة الدولية وهذا أصبح متناميا وبارزا في السنوات الأخيرة ولذلك لا غرابة في أن تلتحق بالمحور الروسي الصيني كل من الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا حيث يشكل ثقلا جغرافيا واقتصاديا وأمنيا وسياسيا بالتالي. رابعا: في ضوء هذه الحقائق هل توجد مصلحة عربية لتلتحق الدول العربية أو أغلبها على الأقل بهذا المحور الجديد لتعزيز التعددية القطبية لخلق التوازن المنشود في السياسة الدولية التي عانت خلال الثلاثة عقود الماضية في ظل هيمنة دولة واحدة وإحكام سلطة هذه الدولة المنفردة بالقوة؟. حقيقة إن مصلحة العرب كما كانت إبان الحرب الباردة هي عدم الانجرار من الناحية السياسية لأي تحالف لكن مع دعم الاتجاه نحو التعددية القطبية لأن هذه القطبية تمنح الدول العربية مثلما كان الأمر في السابق مجالا للمناورة بحيث تعمل هذه الدول على حمل هذه الدول على اتباع بوصلة مصالحها الوطنية والقومية ومن هذا المنطق فإن السيناريوهات المستقبلية للنظام العالمي يمكن فهمها في إطار التطورات والمتغيرات الجديدة والتي أشرنا إلى بعضها في بداية هذا المقال انطلاقا من الوضع الروسي والوضع الصيني المتصاعد في النظام العالمي في سعي معلن وصريح وقوي للتحول نحو التعددية القطبية وهذا معناه الاتجاه سريعا نحو زوال النظام العالمي الأحادي والذي جاء نتيجة مباشرة لانهيار الاتحاد السوفيتي مما مكن الولايات المتحدة الأمريكية من قيادة العالم اقتصاديا وسياسيا وأمنيا بمفردها وهذا ما حدث وتشير أغلب التقارير والدراسات إلى تعزيز مكانة روسيا والصين ما سيساعد على التحول إلى القطبية التعددية.
مشاركة :