حافظت الملكة الراحلة إليزابيث الثانية على روابط الكومنولث - هذه «العائلة» المكونة من 56 دولة موالية لتاجها. هل سينجح ابنها الملك تشارلز الثالث في الحفاظ على هذا الاتحاد؟ لا شك أن الملك الجديد يواجه اليوم بالفعل ما يمكن أن نسميه تمرد رعايا ما وراء البحار. في نهاية شهر أكتوبر الماضي، رفض عدد قليل من نواب من منطقة الكيبيك الكندية التعهد بالولاء لملك بريطانيا، الذي يعتبر رئيس دولة كندا، حسب ما يفرضه الدستور على جميع المسؤولين المنتخبين على الصعيدين الاتحادي والإقليمي. قد لا يتمكن الملك تشارلز الثالث من الجلوس على كرسي لأنه، وفقًا للدستور، يجب على هؤلاء النواب أن يؤدوا قسمين وليس قسما واحدا - أحدهما «تجاه شعب كيبيك»، والآخر تجاه الملكية البريطانية. جاء هؤلاء المسؤولون المنتخبون من الحزب اليساري «كيبيك سوليدير» وهو متضامن ومؤيد مع دعاة السيادة الوطنية الكندية مثل حزب الكيبك. لوفيجارو تحدث بول سانت بيير بلاموندون، رئيس حزب الكيبك، عما يعتبره «تضارب في المصالح» لأنه «لا يمكن للمرء أن يخدم سيدين». رفض النواب الكنديون اقتراح كتلة كيبيكوا التي تدعو إلى قطع العلاقات مع النظام الملكي البريطاني، بأغلبية 266 صوتًا معارضا و44 صوتًا مؤيدا للمقترح. في أستراليا أيضًا يطفو مثل هذ الجدل بانتظام، بينما تنتشر في منطقة البحر الكاريبي رغبة جامحة في التحرر الوطني. هل سيكون عهد تشارلز الثالث هو ذلك الذي سينفض فيه الكومنولث العزيز على قلب والدته إليزابيث الثانية وينفرط عقده بعد عقود طويلة من الولاء للتاج البريطاني؟ يعد الكومنولث إرثا قديما للإمبراطورية؟ يضم الكومنولث اليوم، الذي يحب أن يصف نفسه على أنه «أسرة من الأمم»، 56 دولة «مستقلة ومتساوية» ويبلغ مجموع سكانها 2.5 مليار نسمة، أو ثلث البشرية. تضم منظمة الكومنولث بعض الاقتصادات المتقدمة الكبيرة، إلى جانب عدد من البلدان النامية و 32 عضوا من الدول الصغيرة، معظمها من الجزر من البلدان الجزرية. تعود أصول الكومنولث إلى المؤتمرات الإمبريالية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والتي شاركت فيها دول الإمبراطورية التي أصبحت بعد ذلك شبه مستقلة. ولدت منظمة الكومنولث خلال المؤتمر الذي عقد في سنة 1926. أصبحت بريطانيا وست دول أخرى، وهي أستراليا وكندا والهند وأيرلندا ونيوفاوندلاند ونيوزيلندا وجنوب إفريقيا - أعضاء متساوين في داخل الإمبراطورية البريطانية. عندما اعتلت إليزابيث الثانية العرش في عام 1952 كان لديها تسعة أعضاء. وُلد الكومنولث الحديث بعد الحرب العالمية الثانية. من خلال استقلالها عام 1947، أرادت الهند أن تكون جمهورية لا تقسم بالولاء للسيادة البريطانية، بينما تظل عضوًا في الكومنولث. اعتُمد إعلان لندن عام 1949، وهو ينص على أن الجمهوريات يمكن أن تكون جزءًا منه. يعتبر تشارلز الثالث اليوم ملك على 15 «مملكة» (بما في ذلك أستراليا ونيوزيلندا وكندا وعشرات من دول الكاريبي) من بين 56 دولة عضوة في منظمة الكومنولث. ويمكن لجميع الدول الدولية الانضمام إلى الدول الأربع الأخيرة التي انضمت إلى المنظمة – وهي بلدان رواندا والموزمبيق والغابون وتوغو – علما بأن هذه الدول ليس لها أي صلة تاريخية بالإمبراطورية البريطانية. هل يمكن الحديث اليوم عن تأثير الدومينو في منطقة البحر الكاريبي؟ قبل عام من الآن، تشارلز، الذي كان لا يزال وليًا للعهد فقط، رفض أن يحضر مراسم إنزال هبوط المعيار الملكي (Royal Standard) في بربادوس. فقد أصبحت هذه الجزيرة الكاريبية الصغيرة، التي استقلت بالفعل عن المملكة المتحدة منذ عام 1966، جمهورية قائمة الذات. اعترف الأمير تشارلز آنذاك بالأمر الواقع حيث قال: «إنها بداية جديدة». لا شك أن كلامه يخفي تخوفا متزايدا من أن يفقد التاج جواهر أخرى. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تدير فيها مستعمرة سابقة ظهرها للنظام الملكي لتصبح جمهورية. لقد أقدمت العديد من الأراضي الكاريبية على تلك الخطوة منذ فترة السبعينيات – على غرار غويانا في عام 1970، وترينيداد وتوباغو في عام 1976 ودومينيكا في عام 1978. وفي المحيط الهندي، تحررت جمهورية موريشيوس من التاج البريطاني في عام 1992. يخشى أن يكون للخطوة التي أقدمت عليها بربادوس تأثير الدومينو. بعد أيام قليلة من وفاة إليزابيث الثانية، أعلن رئيس وزراء أنتيغوا وبربودا أن مسألة الجمهورية يجب أن تكون موضوع استفتاء «ربما في غضون ثلاث سنوات». حرص رئيس وزراء أنتيغوا وبربودا في الوقت نفسه على القول إن هذه التمشي لا ينبغي اعتباره «عملًا عدائيًا» تجاه الملك تشارلز الثالث. كما تعتزم جامايكا تسريع المشروع «الحتمي» لتصبح جمهورية، بدعم من 56% من السكان. ما هو تأثير حركة «حياة السود مهمة» Black Lives Matter؟ أبرزت حركة Black Lives Matter الميول والنزعات التحررية الوطنية، مع دعوات لمراجعة الإرث الاستعماري. في بربادوس، تحدث أمير ويلز عما يسميه «أحلك ساعات ماضينا ووحشية العبودية الرهيبة التي لطخت تاريخنا إلى الأبد». في الربيع الماضي، كانت جولة الأمير وليام وزوجته كيت في بليز وجامايكا وجزر الباهاما حافلة بالأحداث. فقد طالبهما المتظاهرون بالاعتذار عن ماضي العبودية في بريطانيا. «لا يزال الكومنولث يعتبر في أذهان العديد من الناس بأنه مجرد بقايا من الإمبراطورية. تعتبر سو أونسلو، الباحثة في معهد دراسات الكومنولث أنه من المسلم به أن لمنظمة الكومنولث جذورًا استعمارية تاريخية، ولكن هناك قصصًا مهمة أخرى نسجت من خلال هذه المنظمة مثل القومية، والاستقلال، وعدم الانحياز، ودعم البلدان النامية. تكمن المشكلة في أن الكومنولث الحديث وثيق الصلة بالنظام الملكي البريطاني. فأي طريق ستسلكه الدول ذات الثقل في هذه المنظمة؟ إن تطور العلاقات مع أهم دول منظمة الكومنولث هو الذي سيحدد مستقبله إلى حد كبير. لقد رأينا أن النقاش يكتسب زخماً في كندا. لكن رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو قال: «لا يوجد شخص من كيبك يريد منا إعادة فتح الدستور». سيكون إعادة البناء شاقًا وسيتطلب سنوات من المفاوضات السياسية. لكن لأول مرة في تاريخ كندا، أظهر استطلاع للرأي أجري في شهر يونيو الماضي أن غالبية المواطنين يريدون إنهاء الملكية، حتى لو كان دورها اليوم احتفاليًا وشرفيا إلى حد كبير. لقد بلغت نسبة الداعمين لهذا الطلب 71% في مقاطعة كيبيك. أما في أستراليا فقد ظل النقاش مفتوحًا على مصارعيه فترة طويلة. أظهرت معظم استطلاعات الرأي التي أجريت قبل وفاة إليزابيث الثانية أن غالبية الأستراليين يفضلون إنشاء جمهورية. لكن بمناسبة وفاة الملكة، قال رئيس الوزراء أنطوني ألبانيز - رغم أنه جمهوري قوي – أن هذه المسألة ليست أولوية. في عام 1999، صوت الأستراليون بفارق ضئيل ضد عزل الملكة. حدثت قصة مماثلة إلى حد ما في نيوزيلندا حيث أكدت رئيسة الوزراء جاسيندا أرديرن في سبتمبر أنه لا توجد «حاجة ملحة» لتصبح جمهورية، حتى لو كان هذا هو الحال. أصبحت جنوب أفريقيا جمهورية في عام 1960 وقد قام الملك تشارلز الثالث بتدليل الدولة المنضوية في الكومنولث. لذلك فقد استقبل في نهاية شهر نوفمبر رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا. أي تطور لهذه الأسرة الكومنولثية؟ في لحظة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كان نادي النفوذ البريطاني هذا يرغب في أن يكون أداة «القوة الناعمة» لدعم «بريطانيا العالمية» - هذه الرغبة في قطع المراسي مع أوروبا للوصول إلى البحر المفتوح. في عدة مناسبات، أظهر تشارلز الثالث ارتباطه بمنظمة الكومنولث، قائلاً إنها «كانت في دمائه». قبل توليه العرش، سافر أيضًا كثيرًا، حيث زار 45 من 56 دولة عضو في الكومنولث. لكن ارتباطه بالكومنولث يبدو أقل حدة من ارتباط إليزابيث الثانية. قال بعض قادة دول الكومنولث عندما سئلوا عن رغبة الملكة في وضع ابنها تشارلز على رأس منظمة الكومنولث إنه، وفقًا للنظام الأساسي، يمكن لجميع الدول الأعضاء تولي منصب قيادة منظمة الكومنولث. في اجتماع قادة الكومنولث في يونيو الماضي في كيغالي برواندا، قال تشارلز الثالث إن الدول الأعضاء لها الحرية في التخلي عن البقاء تحت المظلة الملكية، كما أعرب عن «حزنه» على ماضي العبودية الذي مرغ تاريخ بريطانيا. تقول سو أونسلو: «وُصفت الملكة الراحلة بأنها صمغ الكومنولث»، وعلى الرغم من أن الملك قد تم إعداده لهذا الدور باعتباره زعيمًا احتفاليًا وليس سياسيًا للمنظمة، إلا أنه ليس كوالدته لكنه يدرك أهمية الدبلوماسية الملكية». تعتبر سو أونسلو أن منظمة الكومنولث تنتظرها تحديات أخرى لا علاقة لها بالملك تشارلز الثالث، سواء فيما يتعلق بمسألة تناقص مواردها أو صعوبة إصلاحها، فيما بليت أنماط العمل وعفا عليها الزمن إلى حد كبير. أما الأمينة العامة لمنظمة الكومنولث باتريشيا اسكتلندا فهي واثقة فقد اعتبرت أن إليزابيث الثانية قد تركت المنظمة «في وضع قوي»، وخير دليل على ذلك هو العدد المتزايد من الدول التي ترغب في الانضمام إليها، بما في ذلك البلدان الناطقة بالفرنسية. تذكر سو أونسلو أن الملكة إليزابيت الثانية قد قالت إنه «لا يمكن اعتبار الكومنولث أمرًا مفروغًا منه».
مشاركة :