عن بناء الأسرة الإنسانية الواحدة - د. عبدالحق عزوزي

  • 12/2/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

لا غرو أن اختيار المملكة المغربية، وعلى وجه الخصوص مدينة فاس التاريخية، لاستضافة المنتدى العالمي التاسع لتحالف الأمم المتحدة للحضارات والذي عقد منذ أيام، وشارك فيه الأمين العام للأمم المتحدة وأزيد من 150 دولة، ليس وليد الصدفة، إذ تعد مدينة فاس، عاصمة سرمدية لتمازج الحضارات والثقافات وقبلة أبدية لمختلف الشعوب، فاستطاعت بناء الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك. فالمغرب منذ البداية انطلق من مبدأ الاختلاف هي ظاهرة كونية، واستطاع أن يبيِّن للعالم كيفية الاستفادة من هذا الاختلاف، والذي يكمن في الحوار، فكان المغاربة رائدين في ترسيخ ثقافة الحوار وبلورة حضارة التعايش والسلام والوئام عم إشعاعها كل العالم، جاعلين من انتهاج الحوار العلمي والعقلي صناعة منهجية محكمة القواعد والأصول. وفي هذا المجال الواسع، تعايش المسلمون والنصارى واليهود في بيئة واحدة، ولنا موعظة في تاريخ مدينة فاس، حيث جعلت موطنا للمسلمين واليهود وغيرهم. وقد نال إعجاب الحضور تدخل الأمين العام للأمم المتحدة عندما أشار إلى بعض الأسماء التاريخية ومن مشارب دينية وحضارية مختلفة، والتي تخرجت من جامعة القرويين وتتلمذت على يد علماء مدينة فاس، واذكر من بينهم: دراس بن إسماعيل 357هـ 968م وسيلفيستر 359هـ 970م وأبو عمران الفاسي 430هـ 1039م وابن باجه 533هـ 1139م وابن العربي 543هـ 1149م وابن ميمون الحاخام 567هـ 1172م وابن طفيل 581هـ 1185م وابن رشد 595هـ 1198م وابن زهر 596هـ 1200م وابن سمعون (اليهودي) 623=1226 وابن بطوطة 770هـ 1368-م وابن خلدون 808هـ 1406م وغيرهم ممن اشتهروا عبر القرون وفي كل الأمصار. في ورقتي التي أعددتها للجلسة العامة الأولى، قلت إن اختيار المغرب للتعدد الثقافي والديني والعيش المشترك بين جميع مكونات مجتمعه، لا يفرضه سياق سياسي معين، لكنه خيار متجذر في المجتمع المغربي منذ القدم ويرتوي من النموذج الإسلامي المغربي الذي يقوم على الوسطية والاحترام المتبادل، وتؤطره إمارة المؤمنين التي تحفظ الحرية الدينية لجميع الديانات. فالمغرب، واحة الإسلام المتسامح طوال تاريخه وحتى يومنا هذا، ولطالما شكل أرضا للتعايش، والتسامح والتفاعل بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى. قلت أيضا في ورقتي إن الخرائط التقليدية للجيوبوليتيك قد تغيرت... فيخطئ الكثيرون عندما ينظرون بنوع من الحنين إلى العالم القديم وإلى صراعاته الكلاسيكية ويقرون على أنها حبيسة المنطق الترابي أو السياسي أو الاستراتيجي في حين أن العالم أضحى متحركا، ومحدداته متخطية لحدود الدولة-السيادة وفي تنظيم مستمر تحدده التحركات والسلوكات الاجتماعية حول تحديات معظمها اقتصادية-اجتماعية... ولربما في بداية حقبة تخلف فيها كتل جديدة في العالم... وقد تعم الفوضى والصراع العالميين، حيث ستتكيف كل منطقة في العالم بشكل متزعزع مع التكوين الجديد للقوة. وخلافا للظواهر الصراعية التي كانت تطبع فترة الحرب الباردة والعقد الأول الذي تلاها، لم تعد القوة العسكرية الغربية هي المحدد في إخماد صراعات دول الجنوب، فمهما وصلت القوة العسكرية لدولة بحجم الولايات المتحدة الأمريكية، فإنه في ظل العولمة ومحددات الفترة الراهنة، فإن هاته القوة لا يمكنها تحقيق الأهداف التقليدية التي كانت تحكم الصراعات القديمة، فبدأنا نشاهد مظاهر شتى لوهن الدول القوية ومظاهر أخرى لقوة الدول الضعيفة على الساحة الدولية؛ هذا الوهن الجديد الذي بدأ يسم قوى الدول العالمية مرده إلى الأزمات المتتالية التي تعرفها محددات هذا النظام الجديد المطبوع باللا يقين والمجهول في عالم غير منظم. ومع الغزو الروسي لأوكرانيا، بدأت تظهر للعالم وبخاصة الأوروبيين قيمة السلم والسلام، وقيمة بعض الدول المصدرة للقمح والغاز والبترول، وقيمة بعض المناطق الجغرافية الذي يُعد شريانًا رئيسًا لحركة السلع. السيد الأمين العام للأمم المتحدة ذكر منذ أسابيع في شأن المناخ، أن البشرية أمام خيار العمل معا أو «الانتحار الجماعي» فالعالم المناخي ليس بخير؛ وما سنتركه لأبنائنا لن يكون مصدر فخر لهم؛ وسيحمل جيلنا مسؤولية أمام التاريخ لما يجري وسيجري في المستقبل القريب؛ هاته الأسرة الإنسانية الواحدة التي ننشدها لا يمكن أن تكتمل إلا بإيقاف التغيرات المناخية التي أضحت كارثية وسريعة أكثر من أي وقت مضى... ونفس الكلام يقال عن ضرورة تحقيق مجتمعات يعمها السلم والسلام والتنمية والأمان؛ فالبشرية أمام خيار العمل معا أو «الانتحار الجماعي».

مشاركة :