تحتدم الحرب في أوكرانيا ولم يظهر ما ينبئ بنهاية قريبة لهذا النزاع المسلح. فقد وصل هذا الصراع المسلح إلى ذروته بالفعل حول شروط السلام. هل يجب فرض بنود صارمة على الدب الروسي لمنعه من الخروج من كهفه في أي وقت قريب؟ أو هل يجب، على العكس من ذلك، تمكين روسيا المجاورة من قطعة من الأراضي التابعة لأوكرانيا على أمل أن يظل هذا الدب الروسي صامتًا فترة من الوقت، متخمًا وسعيدًا؟ تلك هي باختصار المعضلة التي تفرق بين الغربيين في الوقت الراهن. لقد جسَّدت شخصيتان أمريكيتان اثنان من المواطنين غير الأصليين هذا الانقسام الغربي وأثارتا الجدل في خطاب كل منهما أمام منتدى دافوس السنوي في سويسرا. لوبوان هنري كيسنجر هو وزير الخارجية في ظل إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون كما أنه شغل منصب مستشار الأمن القومي وقد احتفل للتو بعيد ميلاده التاسع والتسعين. لقد دافع عن السلام على حساب التسوية. أما الملياردير جورج سوروس، الذي سيبلغ من العمر الثانية والتسعين عامًا، فقد شدد على مفهوم العدالة حتى إن كان ذلك سيتسبب في إطالة أمد الحرب في أوكرانيا. في حديثه عبر تقنية الفيديو، دعا كيسنجر، الذي يعد الدبلوماسي الأكثر نفوذاً الذي عرفته الولايات المتحدة الأمريكية، الدول الغربية إلى السعي لاستعادة الوضع السابق، أي المصادقة على الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم وجزء من دونباس. وقال: «أبعد من ذلك، لن تهدف الحرب بعد الآن إلى حرية أوكرانيا [...] ولكنها ستصبح حربًا جديدة، ضد روسيا نفسها». أما الملياردير جورج سوروس فقد قدر أن وقف إطلاق النار كان «بعيد المنال، لأنه لا يمكن الوثوق بفلاديمير بوتين [...]. أفضل طريقة، وربما الوحيدة، للحفاظ على حضارتنا هي هزيمة روسيا في أسرع وقت ممكن». كيسنجر وسوروس من أصل أوروبي، وكلاهما من اليهود الناجين من النازية أيضًا. فقد ولد الأول في ألمانيا ولجأ إلى الولايات المتحدة عام 1938، حيث صعد السلم الأكاديمي والسياسي ليصبح رئيس الدبلوماسية الأمريكية ومستشار الأمن القومي. أما الثاني، أي جورج سوروس، فهو ينحدر من أصل مجري وقد هاجر إلى لندن في عام 1947 ثم إلى نيويورك، وجمع ثروته طائلة من خلال المضاربات كما أنه أنفق مليارات الدولارات، من خلال مؤسساته، لتعزيز الديمقراطية والحرية السياسية في العالم. إن تباين الآراء بين الرجلين يلخص النزاع الذي يقسم أوروبا في الوقت الراهن. فالجانب الذي يمثله جورج سوروس يؤكد مبدأ ضم معظم بلدان أوروبا الوسطى ودول البلطيق، وكذلك المملكة المتحدة، فيما تقود ألمانيا وفرنسا وإيطاليا معسكر كيسنجر، وهو معسكر السلام. يسعى معسكر جورج سوروس إلى إلحاق الهزيمة الاستراتيجية بروسيا، حتى إذا ظل بوتين في السلطة، فسوف يضعف بشكل دائم. أما معسكر هنري كيسنجر فهو يريد تجنب «الإذلال» الروسي، وهو ما أكده أيضا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الخطاب الذي ألقاه أمام البرلمان الأوروبي في يوم 9 مايو 2022، حيث قال يومها: «لن يتم بناء السلام في إذلال روسيا». تلعب الترسانة النووية الضخمة التي تمتلكها روسيا دورا حاسما في ردع الغرب. يعتبر المرجع التاريخي للروس هو عام 1938. فقد شجع الفرنسيون والبريطانيون أدولف هتلر على الغزو عن طريق غض الطرف، في اتفاقية ميونيخ، عن ضمه للجزء الناطق بالألمانية من تشيكوسلوفاكيا. إن الموافقة على حل وسط مع فلاديمير بوتين، في نظرهم، ستشجعه فقط على مواصلة افتراسه لبلدان الجوار. أما بالنسبة إلى معسكر كيسنجر، فإن التاريخ الأساسي هو عام 1919: كانت شروط معاهدة السلام التي تم إبرامها في فرساي بعد الحرب العالمية الأولى ستهين ألمانيا، ما يجعلها أرضا خصبة للانتقام والنازية؛ لذلك سيكون من المستحسن عدم دفع روسيا إلى اليأس لتجنب تمهيد الطريق لكارثة أكبر - لا سيما لأن موسكو لديها ترسانة نووية هائلة. إن وجود هذه الترسانة الضخمة من الأسلحة الذرية تحول دون أي هجوم على الأراضي الروسية السيادية، كما أن هذه الترسانة تجعل أي محاولة لاستعادة شبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو عام 2014 بلا جدوى. لكن وجود هذه الترسانة النووية الروسية لا تمنع بأي حال من الأحوال، على عكس ما يقال هنا أو هناك، من تسليح كييف على نطاق واسع، لمساعدتها على استعادة دونباس، أو من دمج أوكرانيا في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، لترسيخها في الغرب. وإذا وافق فلاديمير بوتين أخيرًا ذات يوم على التفاوض، فمن المحتمل أن يفعل ذلك إما مجبرا أو مكرها. بعد ذلك سيكون الأمر متروكًا للأوكرانيين، وليس للغربيين، لتقييم التنازلات الإقليمية المحتملة التي سيكونون مستعدين لتقديمها للجار الروسي. وإلى أن يأتي ذلك اليوم سيكون مصير المواجهة بين هنري كيسنجر وجورج سوروس قد حسم. في هذه الأثناء من المستحسن تجنب بيع جلد الدب قبل قتله.
مشاركة :