أنهى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زيارة رسمية إلى الولايات المتحدة الأمريكية تركزت على مناقشة ودراسة العديد من الملفات بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي عامة وبين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية خاصة وعلى رأس هذه الملفات الأزمة الأوكرانية ومواجهة روسيا الاتحادية ومواجهة النفوذ الصيني في منطقتي المحيطين الهادي والهندي والأهم من ذلك كله بالنسبة إلى فرنسا الملف الاقتصادي وخاصة ما يتعلق باختلال الميزان التجاري بين أوروبا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية بما في ذلك الارتفاع الكبير في أسعار الغاز الأمريكي الذي يبلغ أربعة أضعاف سعر الغاز الروسي وثلاثة أضعاف الغاز في السوق العالمية. إن هذه الزيارة التي أتت في هذا الوقت الحساس اتخذت طابعا استثنائيا واعتبرها البعض زيارة المحاولة الأخيرة لرأب الشرخ في العلاقة بين ضفتي المحيط الأطلسي بسبب عدم مراعاة الإدارة الأمريكية للمصالح الأوروبية بسبب دفع الولايات المتحدة الأمريكية الاتحاد الأوروبي ودول حلف الناتو إلى فرض العديد من العقوبات على روسيا الاتحادية والتي ارتدت على الاقتصاد الأوروبي والمواطن الأوروبي بشكل مدمر جعلت الرئيس ماكرون يصرخ بصوت مرتفع بأن على أوروبا أن تدافع عن مصالحها في مواجهة الإجراءات والتصرفات الأمريكية فحماية الاقتصاد الأمريكي يجب ألا يكون على حساب الاقتصاد الأوروبي. وتجمع أغلب التقارير والتحاليل على أن هذه الزيارة التفاوضية على بعض الإعفاءات من الرسوم والقيود التي فرضتها الإدارة الأمريكية على السلع والصناعات الأوروبية تبدو وكأنها الفرصة الأخيرة لرأب الصدع الذي بدا يتسع وظهر حتى في المظاهرات والاحتجاجات التي شهدتها فرنسا وإيطاليا وألمانيا ودول أخرى عديدة، حيث بدأ الأوروبيون يشعرون بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي الرابح الأساسي من هذا الصراع على المستويين العسكري والمالي الاقتصادي، حيث لا يلحقها أي ضرر جدي ملموس بسبب هذه الحرب، فأمريكا ليس لديها حدود مشتركة مع أوكرانيا أو روسيا الاتحادية ولا تتضرر فعليا مما يحدث بل هي تكسبت من هذا الوضع وحققت المزيد من الأرباح خاصة في ضوء القانون الجديد المسمى قانون خفض التضخم لتخفيض تكاليف المعيشة للأمريكان وفي المقابل زيادة تكاليف المعيشة للأوروبيين. وقد شعر الأوروبيون في ضوء الأرباح الضخمة التي حققتها الولايات المتحدة الأمريكية خلال التسعة أشهر الماضية بأنهم هم الذين يدفعون ثمن هذه الحرب من اقتصادهم ومخزونهم من الأسلحة وعلى حساب المواطن الأوروبي الذي ارتفعت تكاليف معيشته بنسبة من 30 إلى 50% في أغلب البلدان الأوروبية وتواجه أوروبا الآن معضلة كبرى في مواجهة أزمة الطاقة في ظل الشتاء القارس الذي دخل مبكرا وتعج الصحف البريطانية والفرنسية والألمانية والإيطالية بالشكوى والاحتجاجات وخاصة فيما يتعلق بغياب أو ضعف التدفئة في المنازل والمحلات التجارية والمؤسسات الحكومية والشركات والمصانع إضافة إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية. ومن هنا فإن هذه الزيارة التي أشرنا إليها فيما تقدم تؤكد مجددا أن السياسة الأمريكية لا تراعي حتى مصالح حلفائها الغربيين المقربين فكل ما يهمها تحقيق مصالح الاقتصاد الأمريكي وكسب صوت الناخب الأمريكي أما المواطن الأوروبي فإنه لا يعنيها لا من قريب ولا من بعيد. إن من يطالع التقارير الخاصة بنتائج هذه الزيارة وتصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون في المؤتمر الصحفي المشترك مع الرئيس الأمريكي بايدن يتبين أن الرئيس الفرنسي في هذه الزيارة يسعى إلى إعادة صياغة التنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بتوفير إمدادات بديلة للغاز والنفط الروسيين خاصة بعد العقوبات الغربية على هذا الغاز وطرح بدائل أخرى بما في ذلك خفض سعر الغاز الأمريكي حتى لا تدفع أوروبا تكلفة هذه الأزمة وحدها، كما اتضح أن أوروبا ميالة إلى الحل التفاوضي السلمي بين روسيا وأوكرانيا، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال تصر على مواصلة هذه الحرب حتى هزيمة روسيا المستحيلة لأن هذه الحرب في حال استمرارها تكسب فيها الولايات المتحدة الأمريكية وتخسر فيها أوروبا كلها أما أوروبا، فقد عبّرت على لسان الرئيس الفرنسي عن قلقها وعدم رضاها على مواصلة هذا النزاع بتغذيته فقط بالسلاح كمن يصب الزيت على النار، في حين يطحن الجيش الأوكراني طحنا وترتفع الخسائر البشرية إلى أكثر من 100 ألف جندي بالنسبة إلى أوكرانيا وترتفع الخسائر البشرية بالنسبة إلى روسيا إلى أكثر من 15 ألف قتيل والماكينة العسكرية مستمرة في القتل والحصاد، كما تستمر الاقتصاديات الأوروبية في دفع الثمن غاليا سواء على صعيد الطاقة وارتفاع أسعارها أو على صعيد احتضانها الملايين من اللاجئين الأوكرانيين الذين تتحمل الدول الأوروبية بصعوبة بالغة وجودهم ولذلك لا ندري هل نجحت هذه الزيارة في ترميم العلاقة بين ضفتي المحيط الأطلسي أم لا؟ وهل تغير الولايات المتحدة الأمريكية موقفها من هذه الحرب ليتسنى العودة إلى المفاوضات مع روسيا الاتحادية وهي التي أجبرت أصلا على مواصلة الحرب بعد رفض التفاوض ولذلك لا نتوقع أن تنتهي هذه الحرب المدمرة قريبا وخاصة أن الولايات المتحدة الأمريكية ليس لديها ما تخسره وحتى الأموال التي تقدمها الإدارة الأمريكية إلى أوكرانيا فهي في شكل قروض وديون سوف تتحملها الأجيال الأوكرانية القادمة، كما أن الأسلحة التي تحصلت عليها أوكرانيا من أمريكا ليست أيضا بالمجان.
مشاركة :