ما بين قمة جدة للأمن والتنمية وقمة الرياض العربية الصينية للتعاون والتنمية خمسة أشهر، لكن عنواني القمتين كفيلان بتوضيح الهدف وإلغاء تكرار التحليل المستمر منذ سنوات، ومفاده أن السعودية تتجه شرقاً على حساب الغرب، معادلة جلية لمن يدرك طبائع السياسة وتشكلاتها في المنطقة منذ عقود، وهو ما يتعزز بدرجة أوضح في الوقت الراهن من القدرة على التوازن الدقيق وفق المصالح المشتركة وحجم التحديات والتطلعات. في قمة جدة كان الأمن إلى جانب التنمية، فواشنطن لاعب رئيس في المنطقة ولو لوحت بالانسحاب من الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي يبدو مراوغات سياسية ليس إلا، وعلى رغم تململها أو هجوم إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على السعودية وقيادتها، لكن أجهزة الإدارة وتحديداً الأمنية والعسكرية تعرف منبع الإرهاب الحقيقي وتمويل اللااستقرار، وآخرها ما أعلنه الأسطول الخامس الأميركي عن ضبطه شحنة أسلحة على متن سفينة قادمة من إيران في طريقها إلى اليمن، ومع ذلك، لم يهدد بايدن إيران في حملته الانتخابية أن يجعلها منفية مع علمه بعبثية وإجرام الحرس الثوري في بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. جاءت قمة جدة بمكاسب سعودية في المقام الأول، فقد كسبت الرهان، قبل أربعة أشهر من الانتخابات النصفية قررت واشنطن التخلي عن نبرتها المرتفعة ومصافحة المملكة مجدداً، الصحافة الأميركية توقعت وحللت وكتبت أن الهدف هو رفع الإنتاج في "أوبك+" مقابل طي صفحة الخلاف، وقبل أن يصل بايدن، كان الحديث أنه لن يلتقي ولي العهد السعودي. جاء الرئيس الأميركي والتقى محمد بن سلمان لأكثر من ساعتين وعاد بلا رفع للإنتاج، لكن ما قبل الزيارة وما بعدها من معارك الكلام والنفط يؤكد ما عنونت به القمة، لا تنمية دون أمن، ولا أمن في المنطقة عبر سياسات متذبذبة وانقسام حاد في واشنطن، وهي دائماً هكذا معادلات السياسة وروحها وتجاذبات القوى. اليوم في الرياض، الرئيس الصيني شي جينبينع يعقد قمة سعودية- صينية ثم قمتين خليجية وعربية، عنوانها لا وجود لكلمة الأمن فيه، في حين حضرت التنمية في كلا القمتين الأميركية والصينية، لتظل المفتاح الذي يفتح كل الأبواب المستعصية، حيث يقود لبوابة الاقتصاد والقوة الناعمة. هكذا نرى أن الصين لم تعد تنينا نائماً، بل تحرك واستيقظ عبر الاقتصاد، فبكين لا يهمها نشر البارجات في بحار الخليج والشرق الأوسط، فلديها من الهم في بحرها الجنوبي ما يكفي، بل تسعى لمد حزامها وطريقها في مبادرتها الشهيرة التي تغطي 68 دولة في خمس قارات وفق رؤية المبادرة "حزام واحد طريق واحد". النظام المستقر في الصين والحزب الواحد الحاكم فيها يشكلان ضمانة استقرار لدول المنطقة في من تتعامل معه وكيف ومتى، وهي نقاط جوهرية تنسج رؤية واضحة بلا تقلبات حالية أو في المدى القصير. في الوقت الذي تسعى فيه الصين إنجاح حزامها وطريقها، فلدى السعودية رؤيتها الاقتصادية 2030 التي يقودها ولي عهدها الأمير محمد بن سلمان، حيث تحاول الرياض اقتناص الفرص والاستفادة من الأزمات لدخول أسواق جديدة، فالصين تستورد من السعودية أكثر من 18 في المئة من وارداتها النفطية وهذه الزيادة بدأت بالارتفاع منذ 2020، بعد جائحة كورونا، وهنا يمكن الإشارة إلى أن تضييق الخناق في التصدير البترولي على روسيا، أو وجود أزمة سلاسل إمداد، فتح ويفتح الطريق أكثر أمام الرياض لمغازلة أسواق جديدة. في قمة جدة كان الأمن مقترناً بالتنمية، وفي الرياض التنمية مقترنة مع الصين بالتعاون، والاتجاه السعودي والعربي شرقاً لا يعني التخلي عن الغرب، بل طرق أبواب الجميع ومصافحة الجميع، وقبل كل شيء، المصالح فوق كل شيء.
مشاركة :