أصابت الميزانية العامة السعودية الجديدة مجموعة من الأهداف، التي كرست مفهوما صار سائدا منذ أعوام، بأن مشاريع ومخططات رؤية المملكة 2030، لا تتحقق في زمن قياسي فحسب، بل تبني اقتصادا وطنيا مستداما تستحقه البلاد. توفر الموازنات السنوية العامة في كل مكان، مؤشرا لا يمكن الجدل حول طبيعته وبنيته، لسبب واحد فقط، وهو أنها تطرح الأرقام الحقيقية، بصرف النظر عن سلبياتها أو إيجابياتها. في بريطانيا مثلا انهارت حكومة لم تدم في السلطة سوى 44 يوما، بسبب الارتباك الذي نشرته ميزانية تكميلية، وهذا الارتباك كان ناجما عن رفع مستوى الدين العام من أجل تمويل خفض للضرائب. أرقام هذه الميزانية أزالت بالفعل طاقما حكوميا كاملا بزعامة ليز تراس، بعد أن فقد حزبها القدرة على التحمل، من فوضى خطيرة. أرقام الموازنات العامة تضع في الواقع معالم الطريق للاقتصاد الوطني، خصوصا إذا ما كان في فترة استكمال عملية البناء. من هنا يمكن النظر إلى الميزانية السعودية الجديدة التي حققت أول فائض في تسعة أعوام بنحو 102 مليار ريال. ولهذه النقطة أهمية كبيرة حقا، لأن الميزانية تحولت من حالة التوازن المالي إلى مرحلة استدامة الفوائض، ما يعزز المسارات الخاصة بالتنمية والبناء والإنفاق وغير ذلك من مجالات. فالإصلاحات المالية تم استكمالها بالفعل، في مساحة زمنية لا تزيد ستة أعوام. أي منذ أن اعتمدت الحكومة في المملكة برنامج تحقيق التوازن المالي المعروف. والوصول إلى إنجازات سريعة في مجال كهذا ليس بالأمر السهل، ما يعني أن الطريق نحو التمكين الاقتصادي الشامل (وفق "رؤية المملكة") ممهدة للتقدم نحو آفاق جديدة أخرى، تكرس حقيقة وجدوى التحولات الاقتصادية الجارية على الساحة. ولا شك أن الأداء الراهن للاقتصاد السعودي، ليس إلا نتيجة لسلسلة لا تنتهي من الإجراءات الحكومية لتعزيز الإيرادات. فالتحولات الحالية تتطلب ليس فقط خفض العجز وتحقيق الاستدامة المالية، بل تغيير المفاهيم السابقة التي دامت عقودا، والتغيير هنا مرتبط ارتباطا وثيقا برسم معالم المستقبل بكل تبدلاته ومفاجآته. ولأن الإجراءات الحكومية هذه كانت عالية الجودة من حيث الطرح والتنفيذ، فقد تمكنت السعودية حقا من بدء خفض العجز بالميزانية العامة، منذ عام 2016، العام الذي أطلق فيه برنامج التوازن المالي الذي قاد بعد ذلك إلى الاستدامة المالية. فهذه الأخيرة تمثل حجر الزاوية، للوصول إلى حالة مالية صحية توائم كل المشاريع التي تضمنتها رؤية المملكة 2030. ومرة أخرى، رغم المدة الزمنية القصيرة، تمكنت البلاد من تحقيق أهدافها في هذا الميدان المحوري. وحتى عندما ارتفع العجز بفعل تبعات جائحة "كورونا"، إلا أن الأدوات الاقتصادية الحاسمة، تمكنت من استعادة السيطرة بسرعة كبيرة، وحققت الفوائض المشار إليها. المسألة برمتها ليست سهلة، ولكن عندما تكون أدوات التحول والتغيير متاحة، والأفكار الابتكارية مفتوحة، والإصرار على الإنجاز في كل الأوقات، يمكن حصد النتائج المرجوة من أي مخطط بصرف النظر عن طبيعته. فالنمو الذي تشهده المملكة يمضي بوتيرة جيدة، وهو يشمل القطاعات كلها دون استثناء، وفي مقدمتها القطاع غير النفطي الذي يمثل هدفا رئيسا في استراتيجية البناء الاقتصادي، خصوصا مع الارتفاع المتواصل لمساهمة القطاع الخاص في التنمية. وقد وفرت السياسات التي تتبعها الرياض مزيدا من الدعم لهذا القطاع، لأن يكون شريكا أساسيا، على المستويات كلها. فتنوع مصادر الدخل، يفسح المجال أمام كل جهة لدخول الميدان بما يوفر لها ولعملية التنمية عوائد كبيرة ومستدامة وقوية، دون بالطبع التدفقات المالية الخارجية التي وجدت في السعودية مكانا آمنا للاستثمار، حتى في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي مر بها العالم في 2020، أو عام الجائحة. العملية برمتها متكاملة، ولا تقتصر على جهة أو ميدان أو ساحة. فالكل له دوره وله عوائده أيضا في حراك كبير يستهدف بناء اقتصاد وطني جديد، لا علاقة له بما كان سائدا طوال الأعوام التي سبقت "رؤية المملكة". ولأن الأمور تمضي وفق المخططات الموضوعة لها، بما في ذلك مواصلة تطوير إصلاحات الإنفاق، فإن الميزانية السعودية لعام 2023 قدرت وفق وزارة المالية بـ 1.114 تريليون ريال، مقابل إيرادات تصل إلى 1.130 تريليون ريال، أي بفائض قدره 16 مليار ريال، أو ما يساوي 0.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. في حين أن الفوائض المقدرة لعام 2024 تتجاوز 21 مليار ريال، وهذه أيضا خطوة أخرى لتعزيز المالية العامة، وتكريس نجاحاتها، وتمكين أدائها بما يخدم الاستراتيجية الوطنية العامة. العجز المالي الذي مرت بها الميزانية السعودية على مدى العقود التي سبقت إطلاق رؤية المملكة 2030 كان كبيرا، خصوصا في فترة الثمانينيات والتسعينيات، حيث بلغ 826 مليار ريال. لكن الأمور الآن تغيرت والأوضاع تبدلت والأدوات تجددت، والميزانيات المقبلة ستعكس في الواقع الصورة الشاملة لـ"رؤية" تستهدف البناء الشامل، بصرف النظر عن أي اعتبارات.
مشاركة :