من عادة أهل الأهواء والبدع تخطِّي الأهم إلى المهم سواء كان المتخَطَّى إليه مهماً مرجوحاً في الواقع، أو أنه ليس مهماً أصلاً، لكنهم توهموه كذلك، وفي هذا محادَّة للشرع، ومن تمادى فيه وطبَّقه في الأمور العظيمة المتعلقة بالاعتقادات والإمامة وأمن المجتمع أوصله إلى البدع الغليظة الشائنة.. تفاوت درجات الأعمال في الأهمية وغيرها أمر شرعيٌّ، يرجع فيه إلى ما قرره الشرع، فما قدمه فهو المقدَّم، وما أخره فهو المؤخَّر، وما جعل له درجةً نِسبيَّة تتبدل حسب الأحوال والأشخاص والملابسات، فدرجته على حسب ما جَعلَ له، والرَّاغبُ في العمل إما عالمٌ قامت عليه الحجة بما حصَّله من علم هو فيه على بصيرةٍ، فذاك مأمور بالانقياد لما علم من ترتيب الأمور الوارد في النصوصِ والمستنبط مما عهد في الشرع من الموازنات، وعليه تقديم ما تقتضي المصلحة المعينة تقديمه في حالة معينة، وإما غير عالم على الوجه الذي تقوم به الحجة، وهذا لن يستغني عن استفصال العلماء الربانيين عن ترتيب الأعمال حسب الأولوية، كما هو المأمور به في قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)، فإن طبَّق هذا التوجيه العظيم فقد أفلح في مَسْعاه، وإن تجاهله وقع في تقصير كبير ربما أفضى به إلى تضيع الواجب بالتلبس بالنافلة، أو ترك الواجب العيني بالاشتغال بالكفائي وغير ذلك من أنواع التقصير، ولي مع تخطي الأهمِّ إلى المهم وقفات: الأولى: من مظاهر الوقوف عند حدود الشرع وتمام الخضوع له الانقياد له فيما شرع من تفضيل بعض الأعمالِ على بعضٍ؛ لأن اختيار الأهم والآكد بيد الله قال تعالى: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ»، قال ابن القيم رحمه الله: "فليس لِأَحدٍ أَن يخلقَ ولَا أَنْ يَخْتَارَ سِوَاهُ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِمَوَاقِعِ اخْتِيَارِهِ، وَمَحَالِّ رِضَاهُ، وَمَا يَصْلُحُ لِلِاخْتِيَارِ مِمَّا لَا يَصْلُحُ لَهُ، وَغَيْرُهُ لَا يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ بِوَجْهٍ"، وقد انقاد الصحابة رضوان الله عليهم لهذا، فكانوا يسألون رسول الله عليه وسلم عن درجات الأعمال، يقولون مثلاً: "أي الأعمال أفضل؟" "أي الأعمال أحب إلى الله تعالى؟" ويجيبهم بذكرها، وقد ذكر العلماء أن إجابته إن اختلفت؛ فلأنه يجيب كل قَوم بمَا يَحتَاجُونَ إليهِ أو بما لهم فيه رَغبَة أو بِمَا هُو لائق بهم، أو يراعي نسبيةَ الأهمية باختلاف الأوقات، ومع ذلك فالمراتب مقررة معروفة، فمثلا: لا شك أن أوجب الواجبات التوحيد، وأن أفضل الأعمال الظاهرة الصلاة، ومعرفة ما كان من الأعمال من جنس ما يتقدم على أهمَّ منه مراعاةً لظروف اقتضت ذلك موكولة إلى العلماء الربانيين الذين هم ورثة الأنبياء، فهم المعنيون بإجراء الموازنات المطلوبة لمعرفة ما يقدم وما يؤخر، وغيرهم محجوب عن النظر في ذلك، فوظيفة الترجيح مهمة العالم. الثانية: من عادة أهل الأهواء والبدع تخطِّي الأهم إلى المهم سواء كان المتخَطَّى إليه مهماً مرجوحاً في الواقع، أو أنه ليس مهماً أصلاً، لكنهم توهموه كذلك، وفي هذا محادَّة للشرع، ومن تمادى فيه وطبَّقه في الأمور العظيمة المتعلقة بالاعتقادات والإمامة وأمن المجتمع أوصله إلى البدع الغليظة الشائنة، ومن هذا القبيل بدعة تخطِّي واجبِ الحفاظ على السِّلم الاجتماعي والتمسك بغرز الجماعة إلى تهييج الرعاع وتحريضهم على زعزعة الأمن والاستقرار بدعوى تغيير المنكر، كما ابتدعه المشاغبون على الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولم ينظر من يُقدم على هذا إلى الحقيقة المتقررة من أن المفاسد التي ارتكبها من الإخلال بالأمن هي في حد ذاتها منكر عظيم وبدعة غليظة، وهي مع ذلك تجرُّ وراءها من أنواع المنكرات ما لا يعلمه إلا الله، وإنكارُ المنكر إنما يُتقرب به إلى الله تعالى بشروطه، وهو كغيره من العبادات لا يكون مشروعاً إلا إذا جرى على الوجه الذي أرشد إليه الشرع، ولا يُسيغ الشرع النهي عن الأخف بارتكاب الأغلظ. الثالثة: يقبح التخبُّطُ بتخطِّي الأهم إلى المهم في كل الأعمال الصالحة، فإن تضمنَ تضييع حقوق الناس عُمرت فيه الذمة بنوعين من الحقوق حق الله تعالى وحق العبد المفرَّط فيه، وذلك كالتطوع بالنفقات على حساب نفقة الأهل والعيال والوالدين المحتاجين، ونفع الأباعد بدلاً من الأقارب، والتطوع بما يستغني عنه أغلب الناس على حساب ما تعمُّ إليه الحاجة أو تغلب، والاشتغال بفروض الكفاية بلا إذن من الوالدين ونظائر هذا، ومن حصل منه هذا النوع من التفريط استوجب أن يؤخذ على يديه حتى يُنصِفَ مَن بخسه حقه، وقد أخرج ابن أبي الدنيا بسنده إلى هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أَنَّ كِلَابَ بنَ أَمَيَّةَ، غَزَا فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَنْشَأَ أَبُوهُ يَقُولُ: إِذَا بَكَتِ الْحَمَامَةُ سَاقَ حُرٍّ علَى بَيْضَاتِهَا دَعَوَا كِلَابَا تَرَكْتَ أَبَاكَ مُرْعَشَةً يَدَاهُ وَأُمَّكَ مَا تُسِيغُ لَهَا شَرَابَا فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكَتَبَ فَجِيءَ بِهِ، فَلَمَّا أَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ عَلَاهُ بِالدِّرَّةِ ضَرْباً، وَقَالَ: «أَجِهَادٌ أَفْضَلُ مِنْ أَبَوَيْكَ؟ أَجِهَادٌ أَفْضَلُ مِنْ أَبَوَيْكَ؟».
مشاركة :