تهتم العلوم الاجتماعية بدراسة السلوك الإنساني والذي يشمل جوانبه الاجتماعية والثقافية وتضم العديد من العلوم الإنسانية مثل علم الاجتماع وعلم النفس والخدمة الاجتماعية والاقتصاد. وتعود العلوم الاجتماعية إلى الأصول الإغريقية واليونانية القديمة وتشكِّل تراثاً قوياً في تاريخ الفكر الاجتماعي بسبب استفسارهم العقلانية عن الطبيعة البشرية والأخلاق ولذلك فإن علاقة العلوم الاجتماعية بالمجتمع الإنساني علاقة تفاعلية باعتبارها تؤثِّر على بنائه ومستقبله من خلال تمويل البحوث والدراسات العلمية والآثار التي تترتب على الموضعية العلمية. ولقد اهتم عدد كبير من المفكرين والباحثين في الشرق والغرب بالدعوة إلى إثراء العلوم الاجتماعية ومنها علم الاجتماع. ومن الخبراء في هذا المجال عالم الاجتماع الأنثروبولوجي الفرنسي (كلود ليفي سترواس) الذي كان يعد أحد أبرز علماء الاجتماع والأنثروبوجيا في القرن العشرين ممن اشتهروا بتأسيس الأنثروبولوجيا البنيوية، وكان رمزًا مهمًا في تطوير الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية الحديثة، وله تأثير واسع النطاق خارج تخصصه كواحد من رواد النظرية البنيوية في تحليل النظم الثقافية، وممن وصفوا بأحد أعظم مفكري القرن العشرين من خلال تطويره للأنثروبولوجيا الهيكلية لفهم المجتمع البشري والثقافة. ولقب بعميد البنائيين، كما لقب أيضاً بالبنيوي الأول ويرجع ذلك إلى استعماله المنهج البنيوي في كافة المجالات التي تطرق إليها بالبحث وخصوصاً في مجال الأنثروبولوجيا، وتمسكه بهذا المنهج في دراسته وأبحاثه. ولد العالم الراحل (كلود ليفي سترواس) في العاصمة البلجيكية بروكسل عام 1908 في عائلة فرنسية كانت تقيم في بلجيكا في أوائل القرن الـ19 وحين بلغ (كلود) السادسة من عمره انتقلت عائلته إلى فرنسا وبعد أن أنهى تعليمه العام التحق بدراسة القانون في جامعة السوربون المخضرمة ولكنه سرعان ما تأزمت الأمور القانونية فحول اهتمامه إلى دراسة الفلسفة حتى تخرج من الجامعة عام 1931 وكان مهتما بالأدب الكلاسيكي والفنون والثقافة، كما درس التحليل النفسي والعلوم الاجتماعية والجيولوجيا بشغف كبير واهتمام منقطع النظير وفتها لم تكن الأنثروبولوجيا تخصصاً منفصلاً بعد. وفي عام 1935 قبل عرضاً مهماً ليكون جزءاً من بعثة فرنسية إلى البرازيل فشغل منصب أستاذ زائر في (جامعة ساوباولو) حتى عام 1939 وخلال الفترة التي قضاها العالم الراحل أصبح مهتماً جداً بالأنثروبولوجيا الاجتماعية التي قدمها العالم (مارسيل موس)، كما شهد العام 1939 عودة (كلود) إلى موطنه بهدف الانضمام في الجيش الفرنسي والخدمة العسكرية لكنه تركها بعد استسلام فرنسا للألمان عام 1941 ورحل إلى الولايات المتحدة الامريكية وحصل على منصب مكّنه من التدريس في معهد البحوث الاجتماعية بجامعة نيويورك التي تعد اليوم أكبر مؤسسة خاصة غير هادفة للربح للتعليم العالي في أمريكا، كما شغل وظيفه ملحق ثقافي في السفارة الفرنسية في واشنطن عام 1946، وفي عام 1948 شهد عودة (كلود ليفي) إلى باريس وحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون وكانت أطروحته بعنوان: (البنى الأولية للقرابة) ثم أصبح أستاذاً في معهد العلوم بجامعة باريس وباحثا مشاركا في الصندوق القومي للبحوث العلمية في باريس وشغل بعد ذلك منصب أستاذ الأنثروبولوجيا في كوليج دو فرانس، وفي عام 1949 نشر كتابه «الهياكل الأولية للقرابة».. وأصبح أحد أشهر المفكرين الفرنسيين خاصة بعد نشر كتاب «ترستس تروبكس» تحدث فيه عن رحلة سفره كمغترب فرنسي طوال عقد الثلاثينيات الميلادية من القرن الفائت بأسلوب مميز جمع بين النثر الجميل والتأمل الفلسفي المبهر والتحليل الأنثروبولوجي لشعوب الأمازون. وفي عام 1959 عين (العالم الراحل) في منصب رئيس قسم الأنثروبولوجيا الاجتماعية في كوليج دو فرانس وهو المنصب الذي شغله حتى تقاعده عام 1982م بعد أن وضع حجر الأساس لعلم الأنثروبولوجيا الاجتماعية ليتم قبولها كنظام تعليمي في فرنسا كما أسس عدة مؤسسات تدعم مشروعه الفكري في الصروح الأكاديمية في فرنسا، كما ألف هذا العالم الفذ مجموعة من المؤلفات وكتب العديد من المقالات التي نشرها في المجلات العلمية العالمية والتي ضمها فيما بعد إلى مؤلفاته، حيث تناول الكثير من الظواهر على وفق المنهج البنيوي، ومن أبرز مؤلفاته كتاب الحياة العائلية والاجتماعية لهنود النامبيكوارا (1948)، وكتاب الأنثروبولوجيا البنيوية (1958)، وكتاب الطوطمية اليوم (1926)، وكتاب الأسطورة والمعنى (1978)، وكتاب طريق الأقنعة ( 1979) وكتاب النظرة من بعيد (1983) وكتاب الفكر البري (1962).. كما نال ومن خلال سيرته العلمية والبحثية التي تجاوزت نصف قرن من الزمن العديد من الجوائز الأكاديمية منها وسام الاستحقاق الثقافي 2007 والجائزة الدولية لكتالونيا2005 وجائزة ميستر إكهرت2003 وجائزة نونينو الدولية 1986 والدكتوراه الفخرية من من جامعة لافال 1979 والدكتوراه الفخرية من جامعة أوبسالا 1977 والدكتوراه الفخرية من جامعة هارفارد، والدكتوراه الفخرية من جامعة أكسفورد. توفي عميد البنيوية المعاصرة العالم (كلود ليفي ستراوس) في 30 أكتوبر عام 2009 في باريس أثر نوبة قلبية قبل أسابيع قليلة من عيد ميلاده الأول بعد المئة..! وقد ترك بعد وفاته أرثاً ثقافياً واجتماعياً كبيراً ضم العشرات من المؤلفات والمقالات البحثية التي تنوعت بين علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والأثنولوجيا والفلسفة وغيرها من الاهتمامات العلمية التي شكلت مرجعاً ثرياً للباحثين والمتخصصين في الصروح الأكاديمية في واقعنا المعاصر.
مشاركة :