على امتداد تاريخ الدوري الإنجليزي الممتاز، اتسمت بعض صفقات انتقال اللاعبين بضخامة تكلفتها واتضاح فشلها الذريع لاحقًا. وفي فترة سابقة، فوجئت الأندية الإنجليزية بتساقط ثروات هائلة عليها نتيجة صفقات بيع حقوق البث التلفزيوني. إلا أنه للأسف غالبًا ما دفعت هذه الأموال الضخمة مسؤولي الأندية نحو استثمارات طائشة مع إغداقهم مبالغ ضخمة على لاعبين، من دون إمعان النظر فيما يحمله ذلك من تبعات. وبدا الأمر فعليًا أشبه بإشعال سيجار باستخدام ورقة بنكنوت فئة خمسين جنيهًا إسترلينيًا على غرار الشخصيات الكرتونية الشريرة. ورغم أن هناك كثيرًا من الحالات لأندية أهدرت أموالاً ضخمة على لاعبين اتضح لاحقًا أنه لا جدوى من ورائهم مطلقًا، فإن هناك مثالاً محددًا يثير الدهشة على أبعد الحدود، وهو سافيو نسيريكو. كان يناير (كانون الثاني) 2009 فترة مفعمة بالإثارة نسبيًا بالنسبة إلى نادي وستهام، ففي تلك الفترة كان النادي لا يزال مملوكًا للكونسرتيوم الآيسلندي جود ماغنسوم، وكانت قد مرت بضعة أشهر على تولي غيانفرانكو زولا مهمة تدريب الفريق، خلفًا لآلان كيربشلي المستقيل في سبتمبر (أيلول) العام نفسه. ورغم وجود تخوفات لدى الجماهير حيال المدرب الجديد، فإن زولا الإيطالي بدأ عمله بكسب قلوب المشجعين من خلال أسلوب لعب إبداعي. وجاء انضمام زولا إلى وستهام بعد نهاية موسم الانتقالات الصيفي. وعليه، فإن يناير كان أول رحلة استكشافية له في عالم الانتقالات. وقد ثارت حالة من عدم الارتياح بين مشجعي النادي إزاء قرار الإدارة ببيع كريغ بيلامي، الذي كان النادي قد اشتراه سابقا بمبلغ قياسي، إلى مانشستر سيتي مقابل 14 مليون جنيه إسترليني. في المقابل، تلقت جماهير النادي وعودًا بأن الأموال ستجري إعادة استثمارها في استقدام مهاجم جديد. وبعد أسبوع، أعلن وستهام كسره أكبر مبلغ قياسي دفعه من قبل للحصول على لاعب في صفقة جديدة لشراء نسيريكو، مهاجم ألماني ولد في أوغندا، من نادي بريشا الإيطالي مقابل تسعة ملايين جنيه إسترليني. وبطبيعة الحال، أثار هذا المبلغ الضخم دهشة كثيرين، وساور القلق البعض، نظرًا لأن النادي خصص أكبر مبلغ قدمه في صفقة انتقال للاعب لم يشارك في مباريات للدوري سوى 23 مرة، وسجل ثلاثة أهداف فحسب لصالح فريق يلعب بدوري الدرجة الثانية. ومع ذلك، تبقى الحقيقة أن كثيرا من اللاعبين كانوا بعيدين عن دائرة الضوء ولا يعرفهم أحد، وبعد اقتناصهم من قبل أندية كبرى صنعوا مسيرات كروية ناجحة داخل إنجلترا. وكان نسيريكو يحظى بسمعة طيبة بالفعل آنذاك باعتباره حاصلا على جائزة أفضل لاعب ببطولة أمم أوروبا لكرة القدم تحت 19 سنة لعام 2008. واللافت أن نسيريكو حصل على القميص رقم 10 الذي كان يرتديه بيلامي، وكان هناك شعور قوي بالترقب والإثارة مع مشاركته للمرة الأولى في صفوف الفريق أمام هال سيتي بعد يومين من انضمامه إلى النادي. شارك نسيريكو لاعبا احتياطيا، وبدا واضحًا أنه يتمتع بكفاءة فنية، وأبدى بعض المؤشرات الواعدة، منها سرعة البديهة والحركة، ما أثار انطباعًا بأنه قد يتمكن من تعويض نقاط ضعفه البدنية. وكان من الواضح أن مدرب وستهام رأى إمكانيات كبيرة في هذا اللاعب المهاجم الذي اعتمد على المكر بدلاً من القوة الفجة، وبدا أشبه بشخص يعمل على فتح الأقفال بذكاء ومهارة بدلاً من تحطيم الباب برمته. إلا أنه بمرور الوقت بدا واضحًا أن هشاشته البدنية ستمثل عائقًا ضخمًا للغاية في طريقه. واقتصرت مشاركاته بالمباريات على النزول لاعبا بديلا. ورغم قدرته الجيدة على الاستحواذ على الكرة، فإنه غالبًا ما بدا مفتقرًا إلى الثبات، وكان عرضة للتمدد على الأرض في أعقاب أقل تداخل مع لاعب آخر. وعليه، أصبح من الواضح للجميع أن هناك خطبا ما باللاعب الجديد. عندما لا تمنى الصفقات الضخمة بالنجاح، تختلف ردود الأفعال تجاه ذلك من نادٍ إلى آخر، فالبعض يتشبث بعناد باللاعب، رافضًا تمامًا الاعتراف بحقيقة الموقف، تمامًا مثل طبيب يحاول إجراء إسعافات أولية لمريض توقف منذ فترة عن التنفس. وهناك أندية أخرى تعمل ببساطة على تقليص خسائرها وبيع اللاعب لأي جهة تبدي رغبتها في شرائه، حتى وإن ترتب على ذلك خسارة مادية. وبالفعل، اتخذ وستهام الخيار الأخير فيما يخص نسيريكو. وعليه، باع وستهام اللاعب لفيورنتينا بعد ستة شهور فقط مقابل ثلاثة ملايين إسترليني، وجرت مبادلته بلاعب خط الوسط البرتغالي مانويل دا كوستا. مع فيورنتينا، شارك اللاعب في عشر مباريات فقط، منها واحدة فقط شارك بها منذ البداية. وفشل في تسجيل أهداف للفريق الإيطالي. ومع أن الوقت الذي قضاه اللاعب في شرق لندن كان مخيبًا للآمال، فإنه بالتأكيد ليس أول لاعب يعجز عن التأقلم مع الحياة في إنجلترا والمتطلبات البدنية الخاصة بالدوري الإنجليزي الممتاز. وعليه، فإن العودة إلى إيطاليا، حيث سبق وأن أبدى مؤشرات واعدة في مراهقته داخل نادي بريشا، بدت فرصة قيمة لإعادة مسيرته الكروية لمسارها الصحيح. إلا أن هذا لم يفلح أيضًا. ولم يكن أحد ليتخيل حجم التراجع الذي منيت به مسيرة نسيريكو داخل الملاعب بدءًا من هذه اللحظة. في فيورنتينا، وجد نفسه مجددًا على مقعد البدلاء للفريق الأول. وبعد خمسة أشهر من عودته لإيطاليا، انتقل على سبيل الإعارة إلى فريق بولونيا في إيطاليا. إلا أن الفترة التي قضاها هناك لم تكن مثمرة هي الأخرى، حيث شارك في مباراتين فقط على امتداد ستة أشهر قبل أن يعود إلى ناديه الأصلي. وحملت الفترة التي قضاها في بولونيا مؤشرات لما هو آتٍ بمسيرته، حيث قضى نسيريكو السنوات المتبقية من عقده مع فيورنتينا في سلسلة من الإعارات بأندية بمختلف أرجاء أوروبا، حيث عاد إلى ألمانيا للعب في صفوف 1860 ميونيخ في دوري الدرجة الثانية، قبل أن يتجه إلى تشيرنوموريتس بورغاس في بلغاريا، بعد ذلك يوفي ستابيا في دوري الدرجة الثانية الإيطالي، ثم انتقل إلى إف سي فاسلوي في رومانيا، وبعدها عاد إلى ميونيخ ليشارك هذه المرة في دوري الدرجة الثالثة مع إس بي فاوغنتاخانغ، حيث وقع أخيرا عقد انتقال حر. وعلى امتداد كل فترات الإعارات تلك التي استمرت ثلاثة مواسم، لم يشارك اللاعب فعليًا سوى في مباراتين في الدوري لحساب تشيرنوموريتس بيرغاس في بلغاريا. وعلى ما يبدو، فإن عدم مشاركته في المباريات وفشله في الاستقرار بنادٍ معين جاءا نتيجة مشكلات شخصية لازمت اللاعب أينما ذهب. وقد ألغيت تعاقداته مع 1860 ميونيخ، ويوفي ستابيا بعد تغيبه من دون عذر، وجرى تسريحه من إس بي فاوغنتاخانغ لانتهاكه شروط التعاقد. وتفاقمت مشكلاته الشخصية لتبلغ ذروتها عام 2012 عندما ألقت السلطات التايلاندية القبض عليه لتلفيقه قصة اختطافه للحصول على فدية من ذويه. وبعد رحيله عن إس بي فاوغنتاخانغ، شرع نسيريكو في التنقل بين الأندية على نحو أشبه بالرحالة، حيث شارك مع فيكتوريا كولن الألماني وهابويلروني أكو الإسرائيلي، قبل أن ينتقل إلى كازاخستان. عام 2014، انضم إلى نادي أتيراو الذي أنهى الموسم السابق من الدوري الممتاز الكازاخستاني في المركز الـ11. وتميزت مباراته الأولى مع الفريق بتسجيله هدف الفوز في مباراة انتهت بهدف مقابل لا شيء. ووصف مشجعو النادي الهدف بأنه هدف الموسم. أما الصادم في الأمر فهو أن هذا الهدف كان الأول له بدوري للمحترفين منذ أن كان مراهقًا في بريشا في يناير 2009. ولتقريب الصورة أكثر، فإنه قبل الهدف الذي سجله لحساب أتيراو، جاء آخر هدف سجله نسيريكو عندما كان جوريج دبليو بوش رئيسًا، ولم يكن جاستن بيبر قد أطلق أول أغنية له منفردًا. ورغم براعته وإمكاناته التي كشفها هذا الهدف، رحل نسيريكو عن النادي في يونيو (حزيران) 2014 بعد مشاركته في عشر مباريات فقط، واستمر من دون نادٍ لمدة عام قبل أن يوقع للانضمام إلى بيروستارا زاغورا بالدوري البلغاري الممتاز، حيث لعب حفنة من المباريات الإجبارية قبل أن يتنازل عنه النادي في يوليو (تموز) 2015. ويعمل نسيريكو حاليًا وكيلاً حرًا. إذن، أين الخطأ؟ عام 2012، أعلنت نائب رئيس نادي وستهام يونايتد كارين برادي أنها ستجري تحقيقًا حول صفقة نسيريكو التي أشرف عليها مجلس الإدارة السابق، مشيرة إلى خسارة مالية ضخمة تكبدها وستهام بسبب بيع اللاعب بثمن زهيد للغاية بعد ستة أشهر فقط من ضمه إليه. في الواقع، كان من الطبيعي شعور برادي بالتشكك في الصفقة، ذلك أن مدير الشؤون الفنية بالنادي آنذاك، جانلوكا ناني، كانت له صلات سابقة بنسيريكو وبريشا، ذلك أنه اضطلع بدور الوساطة في الصفقة التي نقلت اللاعب في سن الـ16 من هيرتا برلين، علاوة على كونه زوج ابنة رئيس بريشا، لويغي كريوني. إلا أن نتائج التحقيق الذي أجرته برادي لم تعلن قط منذ ذلك الحين. مَن يدري، ربما لم يكن نسيريكو لاعبًا موهوبًا من الأساس، وكان ضحية لصفقة انتقال مبالغ في قيمتها. ومع ذلك، تبقى الحقيقة أنه امتلك بالفعل بعض المهارة بالنظر لأنه كان عضوًا بالفريق الوطني الألماني لما دون الـ19 الذي فاز ببطولة أمم أوروبا لهذه الفئة العمرية. إلا أنه على ما يبدو، فإن سقوط اللاعب يتعلق أكثر بالمستويات الجديدة التي بلغها من شهرة وثروة. على سبيل المثال، اعترف نسيريكو عام 2013 بأنه «فقد اتصاله بالواقع» عندما هبطت عليه ثروة ضخمة، وجاء تلفيقه لمسألة اختطافه بوصفها محاولة لسداد الديون التي تراكمت عليه والإبقاء على أسلوب الحياة الفاخرة الذي يتبعه. ومن هذا المنظور، يمكن اعتبار قصته عبرة للاعبين الصغار الذين يجدون أنفسهم فجأة في مواجهة ثروات هائلة. جدير بالذكر أن نسيريكو لا يزال في الـ26 فقط من عمره، ولا تزال أمامه فرصة إعادة مسيرته الكروية لمسارها الصحيح، رغم أن هذا يبدو غير محتمل بالنظر إلى ماضيه. وحتى يحقق ذلك، سيبقى نسيريكو صاحب السجل الأسوأ على الإطلاق في تاريخ الدوري الإنجليزي الممتاز.
مشاركة :