ليس في التفاعل ما بين الثقافات المختلفة في عصرنا ما يثير الدهشة بسبب المواصلات الحديثة التي اختصرت المسافات وفي زمن ظهور التيارات الفنية "العالمية"، وسهولة السفر والابتعاث لدراسة الفنون في بلدان مختلفة، وحتى الاطلاع على كل فنون العالم من مكان واحد، بات من الطبيعي ظهور أعمال فنية متآخية ومتشابهة مهما كانت المسافات الفاصلة ما بينها كبيرة. ولكن المدهش حقاً، هو ظهور صلات قربى ما بين الفنون، تصل إلى حد التطابق الذي يخدع العالم في تحديد منشئها، في حضارتين بعيدتين عن بعضهما وفي زمن كان يتطلب الانتقال من واحدة إلى أخرى سفراً يطول لعدة أشهر، ونقصد بهما الحضارتين الصينية والإسلامية العربية. يعرف خبراء الآثار والفنون أن ثمة صلات قربى جمالية ما بين الفنون الإسلامية والفنون الصينية القديمة. وفي المتحف البريطاني مثلاً، عدد من التحف الخزفية والمعدنية العائدة إلى هاتين الحضارتين، يمكن الجزم أنها لو صنعت اليوم لتسببت في نشوب خلاف حول ملكيتها الفكرية بسبب التشابه الكبير في ما بينها والذي يستحيل رده إلى الصدفة. فمتى بدأ هذا التفاعل؟ ومن أخذ عن الآخر ومتى؟ البداية على أيدي التجار يجمع المؤرخون على رد العلاقات التجارية ما بين البلاد الإسلامية والصين إلى بدايات تدفق التجار العرب على الصين عبر ميناءي كانتون وهانغزو في مطلع القرن الثامن الميلادي، وإن كان الحرير هو السلعة التي استأثرت باهتمامهم في البدايات، فسرعان ما ضموا إليه الأدوات المنزلية والتزيينية المصنوعة من السيراميك، والتي لاقت استحساناً كبيراً في البلاد العربية في العصر العباسي، وفي المتحف البريطاني بعض القطع الكاملة وبعض الحطام من السيراميك الصيني عُثر عليها في سامرّاء في العراق ويعود تاريخ صناعتها إلى القرن التاسع الميلادي على عهد سلالة تانغ. العرب أخذوا عن الصينيين أولاً لما راج السيراميك المستورد من الصين وكثر الطلب عليه في البلاد العربية، بدأ العرب بتقليد صناعته التي ازدهرت في أماكن عديدة أشهرها تاريخياً سامرّاء في العراق والرقّة في سورية. في عام 1368م، أصدر أول أباطرة سلالة مينغ الحاكمة أمراً بمنع الاتجار بالسيراميك الصيني مع كل الجهات الخارجية. الأمر الذي انعكس إيجاباً على نشاط المصانع العربية، التي لم تكتفِ بإنتاج الطرز العائدة إلى عهد سلالة مينغ المعاصرة، بل راحت تقلّد أيضاً الفنون الصينية من عهدي يوان وتانغ، وبشكل خاص الفن المعروف باسم "سانكاي"، وهو فن تلوين الخزف بالأخضر والبني والطحيني وتزجيجه. لم يدم القرار الصيني بمنع تصدير السيراميك طويلاً. ففي العام 1403م، أصدر الإمبراطور اللاحق من أسرة مينغ أمراً يجيز تصدير السيراميك بشروط معقولة. ولكن المصانع العربية كانت قد بلغت شأواً كبيراً، حتى أن إنتاجها العائد إلى تلك الفترة يخدع الهواة في عصرنا ويحيّرهم حول ما إذا كان صينياً أو من الرقّة أو سامرّاء أو نيسابور. وهذا ما أخذه الصينيون عن العرب القوافل التجارية التي حملت في البدء السيراميك الصيني إلى البلاد العربية، لم تتأخر في أن تحمل في الاتجاه المعاكس بعض الأدوات التزيينية، وخاصة النحاسية منها التي ازدهرت بشكل خاص في زمن دولة المماليك، وشكلت هذه التحف الإسلامية مصدر إلهام للفنانين الصينيين بشكلها العام وجماليات زخارفها، فراحوا ينتجون في عهد سلالة مينغ قطعاً مشابهة، كان من الممكن أن نقول عنها إنها نسخ، لو لم تكن مصنوعة من البورسلين بدلاً من النحاس، ومن النماذج عن ذلك ما نجده في المتحف البريطاني الذي أشرنا إليه سابقاً حيث نرى حامل صينية من النحاس صنع في العهد المملوكي (1330 م) في الشام أو مصر، وحاملاً مشابهاً جداً صنع من البورسلين الأبيض والمزين بزخارف زرقاء، صُنع في الصين على عهد سلالة مينغ في القرن الخامس عشر، ويبدو أن أكثر ما أبهر الصينيين في العناصر الزخرفية والجمالية الإسلامية كان الخط العربي، فراحوا يزينون أعمالهم الفنية في تلك الفترة، بأحرف عربية متلاصقة على شكل كلمات، فيها الكثير من أحرف اللام والألف والكاف، من دون أن تكون كلمات حقيقية أو ذات معنى، وهذا ما يسميه مؤرخو الفن باسم "شبيه العربية". وبشكل عام يمكن القول إن ما أخذه كل من الطرفين عن الآخر شمل الشكل الإطاري العام للقطعة الفنية، وجوانبها الجمالية مثل اللون والخط، والعناصر الزخرفية التي كان من آخرها تزيين أطباق السيراميك برسوم العنب وزهرة اللوتس، التي اقتبستها مصانع القاشاني في إزنيك في تركيا خلال القرن السادس عشر، ونفّذتها بلونها الصيني الأصلي، الأزرق على الأبيض فقط، وبنت مجدها الذي عرفته خلال القرنين التاليين على هذا الأساس. وإن كنا تناولنا لعيّنات من هذا التفاعل الثقافي والفني قد اقتصر على نماذج وأمثلة من الحضارة الإسلامية في البلاد العربية، أي في أقصى غرب آسيا والصين في أقصى شرقها، فمن المؤكد أن هذا التفاعل كان يكبُر في كل البلدان الإسلامية كلما اتجهنا شرقاً عبر تركمانستان وإيران حتى الصين مروراً بأوزباكستان وطاجكستان وأفغانستان وباكستان والهند، حيث يمكن الحديث عن فنون ومذاهب جمالية تشكلت برمتها من التفاعل ما بين فنون هاتين الحضارتين.
مشاركة :