خصص د. محمد عبيدالله إصداره الأخير المعنون بـ "بلاغة المنفى: تجربة في قراءة القصيدة الدرويشية" الذي صدر حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، لقراءة جانب من شعرية محمود درويش، الشاعر الفلسطيني الراحل عام 2008. والكتاب في نظر مؤلفه دَين قديم من قارئ محِب للشعر بعامة وشعر درويش بخاصة، ولكن الحبّ وحده لا يكفي للكتابة النقدية، وإن يكن أصلا من أصول التلقي والتفاعل والتواصل مع النصوص الإبداعية، وفق رأي المؤلف، ولذلك خصص وقتا غير قليل لإنجاز هذه الدراسة التي تكشف عن جوانب وخصائص مهمة تتعلق بتجربة درويش وخصوصية قصيدته، مع ربطها بإطارها الأوسع المتمثل في تجربة شعر التفعيلة في الشعر العربي الحديث. وجاء اختيار محمود درويش "لاعتبارات متعدّدة؛ في مقدّمتها مكانة تجربته الشعرية وتطوّرها فيما يزيد على أربعة عقود، شهدت تحوّلات مُركّبة مُتداخلة، وبالرغم من انغماس درويش في الحركة الوطنية والسياسية الفلسطينية فإنه ظلّ محافظًا على أصالة شعره وعلى تجدّده، وتنبّه إلى حصار الهمّ السياسي وخطر الوظيفة الوطنية التي ألقيت على شعره، فبذل جهدًا غير خفيّ لتحقيق التوازن بين الوظيفة الجمالية ومتطلبات اللحظة السياسية والوطنية، وعبّر شعره تعبيرًا عميقًا عن مشاغل الهويّة الفلسطينية وإشكالاتها، في ظل التهديد الذي تعرّضت له، وغدا أداة من أدوات المقاومة ضدّ المحو وضدّ العدوان على وجود الإنسان وعلى لغته. ويرى المؤلّف "أن درويش قَبِل التحدّي وناء أحيانًا تحت ثقله؛ كيف تكون شاعرًا متميزًا بمعايير الجمال والشعر واللغة، وفي الوقت نفسه تفي بمتطلبات قضيتك الوطنية؟ في مختلف مراحله بدءًا من الأرض المحتلة احتلّ هذا السؤال مركز وعيه، ومقالته أو صيحته المبكّرة المنشورة في مجلة الجديد (حيفا، 1969) بعنوان (أنقذونا من هذا الحبّ القاسي) خير دليل على ذلك، إذ أدانت الإطراء الزائد الذي استُقبل به (شعر المقاومة)، وطالبت النقد العربي أن يتحرّر من وهم التمجيد والإطراء والعطف، وأن لا يتردّد في نقد الرداءة الفنية". يتناول الكتاب قصيدة واحدة مختارة من شعر درويش في المرحلة الأخيرة من حياته وكتابته، وهي قصيدة تحمل عنوان "منفى: نهار الثلاثاء والجو صاف" من ديوان "كزهر اللوز أبو أبعد" المنشور عام 2005. وفي سبيل تحليل هذه القصيدة تحليلا نقديا موسّعا انطلق المؤلّف -كما يقول في مقدمة الكتاب- "من أن الدراسة النقدية الحقّة لا بدّ لها - مهما تكن ذرائعها أو خلفياتها أو غاياتها- أن تهتمّ بمبنى الشعر وأدائه الفنّي؛ أي أن توجّه اهتمامها إلى الشعر بوصفه جنسًا أدبيًّا له قوانينه الخاصّة، وله طريقته النوعية في التعبير عن المعنى". ويرى د.عبيدالله أن "نقْد الشعر نشاط راسخ متجدّد، لكنني أعوّل على مبدأ حيوي يتعلّق بكفاءة القارئ، ذلك أن المناهجَ النقديّة أدواتٌ وتقنياتٌ يُستعان بها في تحليل النصوص، والنص الأدبي كما وصفه أمبرتو إيكو أقربُ إلى آلة كسلى تتطلّب من القارئ أن يقوم ببعض عملها، والنصوص لا تعمل أو لا تشتغل إلا بإتقان القارئ/الناقد لدوره، مهما يكن المنهج الذي يهتدي به في عمله النقديّ". أما منهج هذه الدراسة فيستند بتعبير المؤلف: "إلى النقد اللغوي والبلاغي والنصي، ذلك أن النصية والدراسة الداخلية أمر مشترك بين مناهج وتيارات نقدية شتّى، بما فيها النقد العربي القديم، كما تجلّى عند الشيخ عبد القاهر الجرجاني الذي نعدّه رائدًا للنقد النصي القائم على أسس بلاغية وأسلوبية ولغوية متداخلة. ولذلك فإن اجتهادنا في هذه الدراسة يقوم على محاولة التقريب بين المناهج والاتجاهات التي عُنيت بدراسة الشعر دراسة داخلية، دون أن تنغلق على البعد التقني والتصويري، فالهدف من الشعر ليس الصور بل معرفة العالم، ومعرفة الذات". ويرى د.عبيدالله أنه قد طوّر لقد طوّرنا "نَسيجة نقديّة تنتمي في أصول خيوطها إلى النقد العربي القديم، فهو نقد نصّي مبكّر عُني باللغة والصورة، وعُني بقضايا الغموض والبديع والصنعة والتناص، وخلّف حُزْمة غنية من المصطلحات والمداخل والآليات التي نراه متقدّمًا وسبّاقًا فيها، ولكنّه يحتاج منا إلى قدْر من الصبر لنراه في ضوء عصرنا الجديد، وفي ضوء المناهج النقدية الحديثة ذات المنشأ الغربي أو الأجنبي؛ فالصورة الإجمالية لنشاط نقد الشعر صورة ممتدّة غنيّة، وإن تكن شابتها في العقود الأخيرة بعض العيوب، ففي الجُملة هناك رصيد نقدي ثريّ قدّمه النقاد العرب وغير العرب لا بد أن يُستفاد منه، ويُبنى عليه". ولقد تنبّه كثير من النقاد إلى مغالطة النظرة الأحادية، ومغالطة ردّة الفعل في تاريخ المناهج النقدية وتحوّلاتها، من الاهتمام بالمؤلف والسياقات التاريخية والنفسية، إلى الاهتمام بالنصوص والقراءات الداخلية الفاحصة، وأخيرًا نظريات القراءة والادّعاء بأن القارئ غدا منتجًا للنص وشريكًا فيه، ومن حقّه أن يفسّره ويؤوّله كيفما شاء. ففي كل هذه النظرات مبالغات وألوان من التطرّف النقدي، سببه ردّ الفعل العنيف من المناهج الجديدة ضد مناهج سابقة، أما اليوم وقد اكتملت الدورة بأن أخذت الأطرافُ أدوارَها ومناهجَها، فلنا أن نعود إلى النظرة المُعتدلة التي تحتاجها القراءة ويحتاجها النقد. وأما أسئلة هذه الدراسة فترتكز -وفق المؤلف- على الاهتمام بتجربة "شعر التفعيلة" الذي عدّ درويش نفسه من المُدافعين عنه، والمجدّدين فيه، وأثبتت الأيام قوّته وجدارته بوصفه مرحلةً جديدةً من مراحل التجديد في الشعر العربي. ومن أبرز الأسئلة التي حاولت الدراسة الإجابة عنها: - ما أهمية عنوان القصيدة الحديثة؟ وكيف يقوم العنوان بدوره السيميائي فيغدو عتبة موجّهة للتلقّي تؤثّر في التفاعل مع النص كلّه؟ - كيف بنى الشاعر قصيدته؟ وأي الأبنية غلب عليها؟ خصوصًا أنها قصيدة طويلة يقتضي بناؤها إجراءات تمنع تفكّكها. وما هي طريقة بناء القصيدة الغنائية الطويلة؟ - وتبعًا لمسألة الطول وسمة السردية تتساءل الدراسة عن النوع الفرعي للقصيدة، وكيف تمازجت فيها العناصر الغنائية والنثرية؟ وهل أنتج ذلك نوعًا شعريًا جديدًا؟ أم ضربًا وتلوينًا من تلوينات تفاعل الأنواع والأجناس؟ - كما تتساءل الدراسة عن أبرز معالم البنى الأساسية للقصيدة في مستوياتها: الإيقاعية، والمعجمية، والتركيبية، والتخييلية. وكيف عكست هذه البنى دلالات القصيدة وتفاعلت مع سماتها البنائية ومع طبيعتها النوعية؟ وجاءت خاتمة الكتاب معبّرة عن نتائج هذه الدراسة النقدية العميقة، فيلاحظ الباحث في مستوى البناء العام أن مبدأ المشي أو التجوال قد مثّل عنصرًا مولّدًا أو رحميًّا للقصيدة، وقد ربط هذا المشي الدائب بشخصية المنفي الذي يمكن تصوّره كشخص دائم الحركة، يضرب في شعاب الأرض، فالتجوال الماثل في قصيدة درويش أقرب إلى معادل موضوعي للنفي وطبيعته التي لا تعرف الاستقرار. كما ركّزت الدراسة على الوظيفة السيميائية البليغة للعنوان في القصيدة الحديثة، وأنه لا ينفصل عن دلالتها، وتبيّنت صلة ذلك العنوان بالبنية الغنائية-السردية التي تداخلت في القصيدة، فشكّلت نوعًا شعريًا متوترًا بين وعيه الغنائي ومكوناته السردية التي تحد من الغنائية وتكبح جماحها. ولاحظ المؤلف أن البنى الفرعية تعمل بانسجام، فالتجلّي الإيقاعي لتلك البنية الرحمية أو الجوهرية، تمثل في اختيار تفعيلة (فعولن) مع تبطئة حركتها بالتدوير، وبتعديل بعض أنظمة القافية كالتحوّل إلى القوافي الداخلية ذات الطبيعة الترصيعية أو التجنيسية، مما جعل الإيقاع بطيئًا نسبيًا، يتلاءم مع الحركة السردية، كما أنه يصلح قناعًا إيقاعيًا لحركة المشي المتلكّئ، وهي مشية المنفي التي وصفها درويش في قصيدة أخرى، متنبّهًا إلى تلكّئها وبُطئها ودورانها، فالغريب يُعرف بتأتأة المشي، بتعبير درويش. وفي المستوى المعجمي أبرز المؤلف الكلمات المفتاحية في القصيدة، ولاحظ أنها تمثّل حقولًا دلالية بارزة تمثّل مدخلًا آخر من مداخل قراءة القصيدة والتماس معجمها ودلالتها. كما لاحظ أن الألفاظ الأساسية المهيمنة هي من الألفاظ الفصيحة المنتقاة بمصطلح القدماء، وأما الألفاظ المعرّبة والدخيلة واليومية فقد استضافتها القصيدة بحذر لتفيد من فعاليتها وتنوّعها دون إلحاق الضرر بالوجه اللغوي للقصيدة. وفي المستوى التركيبي جاء اختيار الجملة الفعلية متجاوبًا مع الحركة ومبدأ المشي والتجوال وتوتّر المنفِيّ، وهكذا هيمنت الجملة الفعلية لتعكس ترابطًا آخر بنيويًّا يمتدّ من البنية الرحمية ويخترق البنية الإيقاعية ويتجلّى عبر حضور الأفعال في البنية التركيبية ذات المنحى السردي. وافترض المؤلف أن هناك صلة بين دلالة النفي والتراكيب اللغوية المعبّرة عن النفي، والتمس إثبات هذه الصلة بين الدلالة والتركيب. وفي المستوى التخييلي، كان الحدّ من غزارة الصور والميل إلى الزهد النسبي فيها، مع الاهتمام بنوعيتها ومنابعها ودلالتها، انعكاسًا إلى الحركة النثرية وإلى الخلفية السردية التي قدمتها القصيدة، من خلال ما نتج عن تتابع الأفعال وتردادها وتكرارها، ومن خلال محمولاتها الحدثية/السردية. وإذا كان المنفيّ أقرب إلى ضحية للذاكرة بسبب شدّة ارتباطه بوطنه وبماضيه أكثر من أي عامل أو مؤثر آخر، فإن الحضور الواسع للصور المُستعادة، ولتراكيب النفي اللغوية، ولبنية التذكّر والنسيان المتفرّعة من البنية التخييلية في نشاط الذاكرة هي تجلّ آخر من تجليات هذا النسيج الشعري. والخلاصة التي خرج بها المؤلف ونخرج بها معه "أن قراءة القصيدة الحديثة تجربة ممتعة، تستحق الصبر والأناة، وتحتاج إلى اجتهاد في تلمّس الطريق نحوها". ومؤلف الكتاب د. محمد عبيدالله، ناقد وشاعر وباحث، يعمل أستاذا للغة العربية وآدابها، وعميدا لكلية الآداب والفنون بجامعة فيلادلفيا الأردنية، له نحو عشرين كتابا في الدراسات النقدية والتراثية، إلى جانب مجموعتين شعريتين. من إصداراته في السنوات الأخيرة: الرواية العربية واللغة، رواية السيرة الغيرية، مفاتيح التراث "معجم الأديان والمعتقدات والمعارف قبل الإسلام"، وغيرها.
مشاركة :