لا شك أن التضخم المتوقع يزيد على 2 في المائة في الأجل القريب، حيث يستطيع الناس رؤية حركة ارتفاع التضخم في الوقت الحالي، لكن إذا نظرنا في أفق الأعوام الخمسة أو العشرة المقبلة، فسنجد الأرقام تتركز في نطاق 2 في المائة إلى 3 في المائة. هذا أمر بالغ الأهمية، حيث تصير توقعات التضخم في الأغلب جزءا لا يتجزأ من تسويات الأجور، وأسعار الفائدة، وخطط الأسر والأعمال. وبمجرد ارتفاعها إلى مستويات عالية، كما حدث مع فولكر في 1979، قد يصعب خفضها مرة أخرى. لذا أقول إن باول لا يواجه تلك المشكلة، على الأقل في الوقت الحالي. ثالثا، بالنظر إلى ظروف الاقتصاد الكلي المتباينة التي في ظلها شرع كل من باول وفولكر في حملته لمكافحة التضخم، نجد أن معدل البطالة في الولايات المتحدة كان في آب (أغسطس) من 1979، أي مع بداية ولاية فولكر، 6 في المائة، وربما لم يكن ذلك سيئا للغاية، لكن بحلول أيار (مايو) 1980، وبعد الركود القصير والحاد الذي شهده ذلك العام، ارتفع معدل البطالة إلى 7.5 في المائة. جاء تحرك مجلس الاحتياطي الفيدرالي برئاسة باول لمحاربة التضخم متأخرا، وهو ما استحق عليه اللوم والانتقاد. لكن حينما شرع في النهاية في رفع أسعار الفائدة، في آذار (مارس) 2022، كان معدل البطالة عند أحد أدنى مستوياته التاريخية وهو 3.6 في المائة، وكانت أحدث معدلات توفير فرص عمل حقيقية تفوق 500 ألف شهريا. ولبيان قيمة هذا الرقم الأخير ووضعه في منظوره الصحيح، نقول إن عدد الوظائف الجديدة المطلوبة للحفاظ على ثبات معدل البطالة قد راوح بين نحو 75 ألفا ومائة ألف شهريا، ما يعني أن الولايات المتحدة كانت ـ ولا تزال ـ تحظى بسوق عمل محكمة ومزدهرة منذ آذار (مارس) 2022. كما يعني هذا أن تشديد السياسة النقدية اليوم قد يفضي إلى تقليص معدلات توفير الوظائف الشهرية إلى نطاق صفر إلى مائة ألف وظيفة، ورفع معدل البطالة إلى 4.5 في المائة أو نحو ذلك، دون التسبب في جلب محنة قاسية. ولو استطاع الاحتياطي الفيدرالي الوصول إلى تلك النتيجة "التي لا أنكر أنها ستتطلب مع المهارة قدرا من التوفيق وحسن الحظ"، فسيعلن المراقبون أن باول ورفاقه قد تمكنوا من تحقيق هبوط اقتصادي سلس ومتدرج. أما فولكر فلم تتوافر له مثل هذه الرفاهية. في النهاية، يجب أن نذكر الاختلاف الأشد وضوحا من كل ما سبق. فقد نجحت جهود فولكر لمكافحة التضخم في تقليص معدل تضخم مؤشر أسعار المستهلك، الذي بلغ ذروته، بمقدار تسع أو عشر نقاط كاملة "بناء على طريقة قياسها بالتضخم الأساسي أو التضخم العام"، بينما تتركز جهود الاحتياطي الفيدرالي في عهد باول على التضخم الأساسي لمؤشر أسعار النفقات الشخصية، الذي بلغ ذروته في شباط (فبراير) - آذار (مارس) الماضيين بوصوله مستوى 5.4 في المائة. واليوم يسعى المجلس إلى خفض هذا الرقم إلى 2 في المائة، أي خفض بمقدار 3.4 نقطة مئوية فقط. وهذه ليست بالمهمة الهينة، لكنها أخف كثيرا من مهمة الاحتياطي الفيدرالي في عهد فولكر، علاوة على ما يحظى به مجلس اليوم من بعض المساعدة من جانب العرض، في ظل انفراج أزمة الارتباكات في سلاسل التوريد. لكل هذه الأسباب وغيرها، لم يفكر فولكر ورفاقه للحظة في التخطيط لهبوط سلس ومتدرج، لأن هذا ببساطة لم يكن في نطاق الممكن بالنسبة إليهم. أما باول وزملاؤه فيحلمون كل ليلة بتحقيق مثل هذا الهبوط. خاص بـ "الاقتصادية" بروجيكت سنديكيت، 2022.
مشاركة :