مسحت الأم دموعها المتساقطة بـ «كم جلبابها»، ولأول مرة منذ أن عرفت بوفاة ابنها إبراهيم وهو ينقذ المرضى من حريق مستشفى جازان تنتبه إلى أن هناك جديدا يحكى غير عبارات المواساة المعتادة والمتكررة والتي ربما لا تلقي لها بالا لفرط حزنها. وفي «المنشية البكري» تلك القرية الهادئة التي تنام في حضن دلتا مصر بمركز قلين محافظة كفر الشيخ التي زارتها «عكاظ» لتنقل كيف تصنع البهجة لتخفف من وضع الرحيل. الحاجة مسعدة على حمودة التي تصارع الأمراض، وأعوامها تقترب من السبعين تواصل حكايات صناعة البهجة: قالوا لي إن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز منح ابني «نيشان» وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى وأموالا كثيرة «مليون ريال»، توقفت عن البكاء، مسحت دموعي، سألتهم: ماذا؟ فكرروا لي نفس الكلام، لا أخفي عليكم كنت أبكي فراق ابني ومستقبل أطفالة الثلاثة ماذا سيفعلون؟ وماذا ستفعل بهم الدنيا بعد رحيل ولدي إبراهيم عبدالعزيز القللي، لتعلوا وجهها ابتسامه شاحبة وهي تقول: لم أكن أناديه إبراهيم، كنت أسميه «نجاح»، وكل القرية كانت تسميه ذلك، والحمد لله قد نجح في الدنيا والآخرة. استرسلت الحاجة مسعدة: نجاح ابني البكر «الأكبر» رزقت بعده بـ «سيد» وكوثر وأسماء، لم يعش «إبراهيم» شبابه مثل كل أبناء القرية، مات أبوه وهو في الـ (17) من عمره، تحمل مسؤوليتنا جميعا، ورغم أنه يحمل مؤهلا متوسطا إلا أنه عمل أجيرا لكي يربي إخوته وينفق على تعليمهم، ورفض أن يتزوج قبل أن يزوج كل إخوته، ولما ثقل العبء عليه بحث عن فرصة عمل ووجدها في المملكة منذ أكثر من 13 عاما، كان عندما ينزل إجازة يحكي لنا كثيرا عن طيبة صاحب المزرعة التى يعمل بها واسمه الحاج صالح زيدان. وتضيف «نسيت أن أقول لكم أنه أخذ شقيقه الأصغر للعمل منذ سبع سنوات». وسألنا الحاجة مسعدة: لكن ماذا قالوا لك عن وفاته؟ استبشر وجهها واسترد بياضه الباهت وارتفع وصوتها وهي تقول: قالوا لي «نجاح» كان يزور أحد أقاربنا فى مستشفى جازان وفجأة شب حريق هائل ووسط النار أخذ «نجاح» يخرج المرضى من المستشفى ينقذ مريضا ويعود وينقذ آخر حتى وصل العدد إلى 10 وبعدها مات بطلا، قالوا لي سوف يعود «نجاح» ليدفن في مصر، قلت: لا، أرض الحجاز أطيب، كل ما أتمناه الآن أن أصافح ملك السعودية وأزور قبر ابني هناك، ليداهمها حزنها فجأة وتنتابها نوبة بكاء حادة وهي تقول «لا زلت انتظر عودته يدق الباب عائدا في إجازته السنوية». ونجحت «عالية» أرملة الراحل نجاح في تهدئة «حماتها» وقالت: ابنك أنقذ 10 وترك لنا 3 أطفال فقط. عالية محمود ناجي زوجة نجاح تتذكر جيدا يوم زواجها على غير عادة الفلاحين البسطاء تقول: «رفضت الجميع ووافقت على الارتباط به، وكان يوم 23 ديسمبر 2007 موعد زواجنا، كان يعاملني معاملة حسنة، فقد كان أبي وشقيقي وزوجي، أنجبت منه ثلاثة محمد (7 سنوات) وأحمد (5 سنوات) ويوسف (ولد قبل وفاة أبيه بأسبوع)، وتضعف مقاومة عالية لدموعها ونذكرها بما روته عن بطولته وتضحيته فتدعو الله أن يجعله من أهل الجنة، وتقول: سوف أحكي لأبنائي ما فعله حتى يفخروا به طوال حياته. وفيما تتواصل ذكريات أرملة القللي، ينبهنا ابن عم زوجها، رفعت القللي، إلى أن وزيرة الهجرة وشؤون المصريين بالخارج جاءت لمواساة الأسرة يرافقها محافظ كفر الشيخ اللواء سيد نصر، رافعا الشكر والتقدير لمكرمة خادم الحرمين الشريفين، فيما يلهج إمام مسجد القرية الشيخ عطية محمود، بالدعاء أن يجزي الله عز وجل خير الجزاء جراء مكرمته التي تؤكد تقديره لفعل الخير والتضحية من أجل الآخرين.
مشاركة :