في مقال لها بمجلة ألمانية في ديسمبر/كانون الأول الماضي، ذكرت كريستين لاغارد، مديرة صندوق النقد الدولي، بأن نمو الاقتصاد العالمي في عام 2016 سيكون مخيباً للآمال وغير متناسق في توزيعه. ويبدو تصريح كهذا غير مألوف في سياق توجهات الصندوق الحريص بشكل دائم في الإصدارات الإعلامية والبيانات الدورية على إبراز الجوانب الإيجابية في توقعاته، والمبالغة في الكثير من الأحيان في التفاؤل حيال أداء الاقتصاد العالمي مستقبلاً، كأداة في حد ذاتها لدفع النمو الاقتصادي، حيث تدخل التوقعات كعامل فعال يؤثر في أداء وقرارات الأطراف المختلفة، سواء مستهلكين، منتجين، حكومات، مؤسسات مالية، أو غيرهم، وبالتالي في النتائج النهائية لتفاعلاتهم. تؤدي التوقعات بذلك في كثير من الأحيان إلى خلق سيناريوهات ذاتية التحقق، فتوقع كارثة قد يدفع وحده إلى حدوثها تبعاً لردود الأفعال تجاه تلك التوقعات. لذلك، قد يحمل تخلي إدارة صندوق النقد عن حذرها في التصريح الأخير، وإقرارها، عكس التفاؤل المزمن في الأعوام الأخيرة بالمخالفة مع الواقع، بأن العام الجديد قد يشهد نمواً اقتصادياً مخيباً للآمال، إشارات إلى مدى التدهور الذي قد يشهده الاقتصاد العالمي في العام الجديد والأعوام القليلة المقبلة، وحجم التباين في أداء البلدان والمجموعات الاقتصادية المختلفة. نمو مخيب للآمال وغير متناسق في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، أصدر الصندوق تحديثه السنوي الأخير لعام 2015 لقاعدة بياناته الشاملة، وهو التحديث الذي شهد تخفيض توقعات نمو الاقتصاد العالمي إلى 3.6% في العام الحالي 2016، وذلك من 3.8% في توقعات إبريل/نيسان من العام نفسه، و4% في توقعات أكتوبر/ تشرين الأول 2014، أي أن الصندوق قد خفض من توقعاته حول النمو في العام الجديد بمقدار 0.4 درجة مئوية في عام واحد (10% من معدل النمو). وكان ذلك بالتزامن أيضاً مع تراجع نمو الاقتصاد العالمي لعام 2015 في قاعدة البيانات ذاتها من تحديث إلى آخر، حتى انتهى في التحديث الأخير في أكتوبر/تشرين الأول إلى انخفاضه دون نمو عام 2014. وبذلك، فإن تدهور التوقعات حيال النمو في العام الجديد يدفعه بالأساس الأداء الفعلي المتواضع للعام المنقضي، والذي حوله من نقطة تحول في انطلاقة الاقتصاد العالمي نحو آفاق واعدة وفقاً للتوقعات المبكرة قبل عام أو أكثر، إلى عام النمو الأسوأ منذ 2009 في أعقاب الأزمة المالية العالمية. وقد ينتهي الأمر كذلك مع صدور البيانات النهائية لعام 2015 في منتصف 2016، إلى تحقيق النمو الفعلي للاقتصاد العالمي معدل دون ال 3.1% الذي ورد في التحديث الأخير لعام 2015، وهو ما سيعني بصورة فورية تخفيض التوقعات للعام الجديد هو الآخر دون المعدلات المخيبة للآمال المشار إليها. ومع ما تحمله متوسطات النمو هذه من دلالات حول الاقتصاد العالمي في العامين الجديد والمنقضي، إلا أنها لا تعكس بدقة التباين في المعدلات الفعلية للنمو من تصنيف اقتصادي لآخر، أو حتى بين بلدان التصنيف الاقتصادي الواحد، وهو عدم التناسق في النمو الذي أشارت إليه لاغارد في مقالها. فتشير توقعات الصندوق على سبيل المثال، إلى تحقيق الاقتصادات المتقدمة في العام الجديد نمواً يصل في المتوسط إلى 2.2%. لكن في حين يُتوقع أن ينمو اقتصاد الولايات المتحدة ب 2.8% في 2016، لا تتخطى توقعات نمو منطقة اليورو 1.6% في العام نفسه، بينما سينمو الاقتصاد الياباني ب 1% فقط وفقاً للبيانات ذاتها. ومن الممكن كذلك رصد المزيد من التباين داخل اقتصادات منطقة اليورو غير متجانسة الأداء بدورها، حيث تتواجد فجوة في أداء بلدان كألمانيا وفرنسا في مقابل أغلب بلدان جنوب أوروبا كإسبانيا، البرتغال، إيطاليا، واليونان. وعلى الجانب الآخر، ستنمو الاقتصادات النامية في العام الجديد بمعدل 4.5% وفقاً للتوقعات الأخيرة، وذلك صعوداً من نمو ب 4% في عام 2015، وهو المعدل الأدنى منذ عام 2009، بما يضيف أبعاداً جديدة كما أشرنا إلى احتمال أن يخرج عام 2015 في البيانات النهائية لاحقاً كأحد أسوأ الأعوام منذ الأزمة المالية العالمية، بما سيجعل من عام 2016 أكثر سوءاً كذلك من التوقعات الراهنة حياله. وإذا نظرنا إلى الاقتصادات الأبرز داخل التصنيف الهائل للاقتصادات النامية، سيبدو عدم التناسق أكثر وضوحاً كذلك. فداخل مجموعة بريكس BRICS على سبيل المثال، التكتل الجامع لكبرى الاقتصادات النامية، فمن المتوقع أن تحقق البرازيل نمواً سلبياً (انكماشاً) بمعدل (- 1%) في العام الجديد، وأن ينكمش الاقتصاد الروسي هو الآخر ب (- 0.6%)، في حين سينمو الاقتصاد الصيني وفق التوقعات ب 6.3% في عام 2016، والاقتصاد الهندي كذلك ب 7.5%. وبشكل عام، تميل الاقتصادات النامية، التي تمثل أغلب بلدان العالم، للتباين في أدائها إقليمياً، فأداء الصين والهند على سبيل المثال وتوقعات نموهما في العام الجديد يعكسان نمطاً أكبر في الاقتصادات النامية الآسيوية، والتي من المتوقع أن تنمو في المتوسط ب 6.4% في عام 2016، في حين يبدو انكماش الاقتصاد البرازيلي متوافقاً مع الأداء الإجمالي لاقتصادات أمريكا اللاتينية والكاريبي، التي حققت في عام 2015 انكماشاً بلغ في المتوسط (- 0.3%)، ومن المتوقع أن تحقق نمواً موجباً متواضعاً في العام الجديد ب 0.8% فقط. وأخيراً، تبدو بلدان إفريقيا جنوب الصحراء أقرب إلى المتوسط الإجمالي للاقتصادات النامية، بمعدل مُتوقع للنمو في 2016 يبلغ 4.3%، وكذلك بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ب 3.8% كمعدل متوقع. وبخلاف التباين المُشار إليه من اقتصادات لأخرى، فإن الآفاق الإجمالية للاقتصاد العالمي كما أشرنا سابقاً لا تدعو للتفاؤل، وذلك في تواصل للأداء المتواضع في العام المنقضي، وهو ما نتج عن عدد من العوامل سيمتد تأثيرها إلى العام الجديد، بالإضافة إلى أخرى من المتوقع أن يكون لها دور فيما يتوقع أن يكون النمو الاقتصادي عليه. فأزمة منطقة اليورو لا تزال تتفاقم بالرغم من الإشارات من عام إلى آخر بقرب انفراجها، بل ووصلت في عام 2015 إلى منعطف هو الأخطر منذ تفجرها مع الصدام بين الحكومة اليونانية والترويكا، والذي انتهى إلى تغييرات وزارية في حكومة اليونان اليسارية وقبولها بمزيد من إجراءات التقشف وحزم المساعدة، التي تسببت في انكماش الاقتصاد اليوناني بأكثر من 25% منذ بدء تطبيقها. ونتيجة لذلك، فإن الاتحاد الأوروبي، بوصفه السوق الأكبر عالمياً لا يزال يعاني نمواً متدهوراً وزيادة في معدلات البطالة، باستثناء الاقتصاد الألماني المتعافي على حساب البلدان المتعثرة. وإلى حد كبير، كان للطلب الأوروبي المتراجع في أعقاب أزمة اليورو، وسلسلة التفاعلات التي أطلقها كلاهما دور في تراجع نمو الاقتصاد الصيني كأحد أبرز التطورات في عام 2015، وكذلك في توقعات عام 2016. فالنمو السنوي للناتج المحلي الصيني قد انخفض في عام 2015 إلى ما دون حاجز ال 7% لأول مرة منذ عام 1990، كمؤشر فارق في الاقتصاد العالمي. فالنمو الصيني القائم على الطلب الخارجي كان المحرك الأبرز وراء نمو الاقتصاد العالمي لفترة طويلة. وإلى الآن لا يزال الطلب المحلي الصيني، الذي تحاول الحكومة تحفيزه لتخفيف تراجع الطلب العالمي، عاجزاً عن دفع نمو الناتج المحلي إلى معدلاته الطبيعية، لعدم كفاية القوى الشرائية المحدودة للسوق المحلي الكبير، لتعويض تراجع الطلب سواء من بلدان الدخل المرتفع أو البلدان النامية الأخرى. أيضاً فإن قرار البنك الفيدرالي للولايات المتحدة رفع سعر الفائدة لأول مرة منذ أعوام، سيكون له تأثير مهم هو الآخر في الاقتصاد المحلي الأمريكي، أحد أفضل الاقتصادات المتقدمة أداءً في الأعوام القليلة الماضية، وفي الاقتصاد العالمي كذلك بصورة مباشرة، وذلك من خلال رفع تكلفة الاقتراض وبالتالي تقليص الطلب على التمويل، بما لذلك من نتائج في صورة تراجع الاستهلاك والاستثمار كذلك، سواء في الداخل الأمريكي، أو في السوق العالمي بوصف الدولار عملة الاحتياط والتداول الأولى في السوق الدولي. وأخيراً، فإن استمرار التدهور في أسعار النفط، وإن كان يمثل في الفترات الطبيعية دافعاً لنمو اقتصادي أفضل لما يمثله من تراجع في تكلفة الإنتاج، فإنه في ظل التباطؤ العالمي القائم بالفعل سيكون تأثيره محدوداً في تحفيز الطلب والنمو، في حين سيؤدي على الجانب الآخر إلى تضرر البلدان المصدرة للنفط حول العالم مع تراجع إيراداتها، وعلى رأسها بلدان الخليج العربي و روسيا، وبلدان غرب إفريقيا الغنية بالطاقة، وبلدان أمريكا اللاتينية المصدرة للنفط، وهي جميعها بالأساس اقتصادات نامية تمثل إيراداتها مصدراً فاعلاً سواء في زيادة الطلب العالمي مع توسعها في الإنفاق، أو كمصدر مهم في الأسواق المالية الدولية كفوائض لتمويل الطلب حول العالم. باحث بوحدة الدراسات الاقتصادية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجيةتصريحات لاغارد تشير
مشاركة :