سـرديـات: رحيلُ صلاح فضل.. فقدٌ نقديٌّ موثِّرٌ!

  • 12/24/2022
  • 01:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

في‭ ‬تسعينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬كنتُ‭ ‬طالبة‭ ‬بكالوريوس‭ ‬اللغة‭ ‬العربيّة‭ ‬وآدابها‭ ‬بكلية‭ ‬الآداب‭ ‬بجامعة‭ ‬البحرين،‭ ‬وكنتُ‭ ‬محظوظة‭ ‬جدًا‭ ‬بتأسيسي‭ ‬النقدي‭ ‬والمعرفي‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬نخبة‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬النقاد‭ ‬الأكاديميين‭ ‬العرب‭ ‬والبحرينيين‭ ‬من‭ ‬أطياف‭ ‬مرجعيات‭ ‬متباينة‭ ‬حدَّ‭ ‬الصدامات‭ ‬والسجالات‭ ‬النقدية‭ ‬المبدعة‭ ‬التي‭ ‬تركت‭ ‬أثرها‭ ‬على‭ ‬جيلي‭ ‬كاملاً‭. ‬لقد‭ ‬خلق‭ ‬منا‭ ‬هذا‭ ‬التباين‭ ‬وصراع‭ ‬الأضداد‭ ‬الجميلة‭ ‬شخصياتٍ‭ ‬معرفيّةً‭ ‬تؤمن‭ ‬إيمانًا‭ ‬تامًا‭ ‬بمساحاتٍ‭ ‬من‭ ‬الاختلاف‭ ‬الثقافي‭ ‬الذي‭ ‬يثري‭ ‬في‭ ‬تعددية‭ ‬أصواته،‭ ‬وبإيمانه‭ ‬بأنَّ‭ ‬ثمَّة‭ ‬تحولات‭ ‬عميقة‭ ‬يمر‭ ‬بها‭ ‬الناقد‭ ‬في‭ ‬مسارات‭ ‬تشكلاته،‭ ‬وأنَّه‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬حقائق‭ ‬مطلقة‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬الآداب‭ ‬والعلوم‭ ‬الإنسانيّة‭ ‬هناك‭ ‬فقط‭ ‬نصوص‭ ‬قابلة‭ ‬للتلقي‭ ‬والتأويل‭.‬ لقد‭ ‬كنتُ‭ ‬محظوظة‭ ‬جدًا‭ ‬بأنّني‭ ‬تعلمتُ‭ ‬أبجديات‭ ‬النقد‭ ‬الأدبيّ‭ ‬الحديث‭ ‬من‭ ‬أستاذي‭ ‬البروفيسور‭ ‬صلاح‭ ‬فضل‭ ‬الذي‭ ‬فتح‭ ‬أعيننا‭ ‬على‭ ‬مصادر‭ ‬النقد‭ ‬الأدبيّ‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬متونه‭ ‬النقدية‭ ‬الغربيّة‭ ‬مع‭ ‬تطبيقاتها‭ ‬النقدية‭ ‬العربيّة‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬والرواية،‭ ‬والقصة‭ ‬القصيرة،‭ ‬والمسرحية‭ ‬الحديثة،‭ ‬وكنا‭ ‬نطالع‭ ‬معه‭ ‬ونستنطق‭ ‬التيارات‭ ‬النقدية‭ ‬الحديثة‭ ‬الرومانطيقية‭ ‬إلى‭ ‬الأسلوبية،‭ ‬والواقعية‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬والبنيوية،‭ ‬والسيميولوجيا،‭ ‬وتحليل‭ ‬الخطاب‭ ‬وغيرها‭. ‬لقد‭ ‬كنا‭ ‬مصابين‭ ‬بحمى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬قائمة‭ ‬من‭ ‬المصادر‭ ‬والمراجع‭ ‬التأسيسية‭ ‬النقدية‭ ‬الحديثة‭ ‬غير‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬الجامعة،‭ ‬ونتبارى‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬العثور‭ ‬عليها‭ ‬وطلبها‭ ‬أحيانًا‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬العواصم‭ ‬العربيّة؛‭ ‬فلم‭ ‬تكن‭ ‬المنصات‭ ‬الإلكترونية‭ ‬وقتها‭ ‬مشاعة‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الآن،‭ ‬وكان‭ ‬المحتوى‭ ‬الأكاديمي‭ ‬في‭ ‬الشبكة‭ ‬العنكبوتية‭ ‬نزرًا‭ ‬يسيرًا‭ ‬لا‭ ‬يسمن‭ ‬ولا‭ ‬يغني‭ ‬من‭ ‬جوع،‭ ‬ومع‭ ‬كلِّ‭ ‬كتاب‭ ‬نعثر‭ ‬عليه‭ ‬بمشقة‭ ‬بالغة‭ ‬نحتفي‭ ‬احتفاءً‭ ‬كبيراً‭ ‬بفرحة‭ ‬الاقتناء‭ ‬والاطلاع‭. ‬أستاذي‭ ‬البروفيسور‭ ‬صلاح‭ ‬فضل‭ ‬كان‭ ‬يحرضنا‭ ‬على‭ ‬التزود‭ ‬بمعرفة‭ ‬مغايرة‭ ‬مختلفة،‭ ‬وكان‭ ‬شديد‭ ‬المواكبة‭ ‬لكلِّ‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬النصوص‭ ‬النقدية‭ ‬وحتى‭ ‬الإبداعيّة،‭ ‬وفي‭ ‬تنبيهنا‭ ‬إلى‭ ‬أنَّ‭ ‬هناك‭ ‬جديدًا‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الإبداعية‭ ‬يستحق‭ ‬عنايتنا‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يكتفِ‭ ‬بالنصوص‭ ‬الإبداعية‭ ‬العربيّة‭ ‬الحديثة‭ ‬والجديدة،‭ ‬وإنما‭ ‬التفت‭ ‬كذلك‭ ‬إلى‭ ‬الإبداع‭ ‬الخليجي‭ ‬واحتفى‭ ‬بصدور‭ ‬رواية‭ (‬شقة‭ ‬الحرية‭) ‬لغازي‭ ‬القصيبي‭ ‬وعدها‭ ‬مسارًا‭ ‬فارقًا‭ ‬جديدًا‭ ‬للقصيبي‭ ‬وعدَّها‭ ‬رواية‭ ‬مؤثرة،‭ ‬وبالفعل‭ ‬كانت‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬حجم‭ ‬تأثيرها‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الرواية‭ ‬السعودية‭ ‬الجديدة‭.‬ لقد‭ ‬آمن‭ ‬صلاح‭ ‬فضل‭ ‬بتلامذته‭ ‬و‭ ‬بقدراتهم‭ ‬النقدية‭ ‬وشجّعهم‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬نقادًا‭ ‬مستقبليين،‭ ‬ولا‭ ‬أزال‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬أتذكر‭ ‬تشجيعه‭ ‬لي‭ ‬بأنَّ‭ ‬كتاباتي‭ ‬ومقارباتي‭ ‬النقدية‭ ‬مستوعبة‭ ‬ومتميّزة‭ ‬واستثنائية،‭ ‬وبقي‭ ‬هذا‭ ‬التشجيع‭ ‬يرافقني‭ ‬عندما‭ ‬أصادف‭ ‬أستاذي‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المؤتمرات‭ ‬النقدية‭ ‬المتخصصة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬النقد‭ ‬الأدبيّ‭ ‬الحديث،‭ ‬وفي‭ ‬مجال‭ ‬الرواية‭ ‬والسرديات‭ ‬الجديدة،‭ ‬وهناك‭ ‬غيري‭ ‬كثيرون‭ ‬أثَّر‭ ‬فيهم‭ ‬صلاح‭ ‬فضل‭ ‬الناقد‭ ‬الأكاديمي‭ ‬ببصيرته‭ ‬النقدية‭ ‬وبمحايثته‭ ‬للحداثة‭ ‬النقدية‭ ‬بأسسها‭ ‬المعرفيّة‭ ‬وبإشكالاتها‭ ‬التطبيقيّة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬وفي‭ ‬غرسه‭ ‬فينا‭ ‬وعيًا‭ ‬نقديًا‭ ‬مغايرًا‭ ‬علّمنا‭ ‬فيه‭ ‬كونية‭ ‬الأدب‭ ‬دون‭ ‬فقدان‭ ‬خصوصياته‭ ‬المحلية،‭ ‬وارتحلنا‭ ‬معه‭ ‬نقديًا‭ ‬في‭ ‬تطبيقات‭ ‬النصوص‭ ‬من‭ ‬الأدب‭ ‬العربيّ‭ ‬الكلاسيكيّ‭ ‬إلى‭ ‬الرواية‭ ‬الغربيّة‭ ‬وإلى‭ ‬أدب‭ ‬أمريكا‭ ‬الجنوبية‭ ‬مع‭ ‬خورخي‭ ‬لويس‭ ‬بورخيس‭ ‬وغابرييل‭ ‬غارسيا‭ ‬ماركيز،‭ ‬وإلى‭ ‬خرق‭ ‬المركزية‭ ‬النقدية‭ ‬الأوربية‭ ‬مع‭ ‬نصوص‭ ‬روائية‭ ‬مترجمة‭ ‬من‭ ‬الهند‭ ‬ومن‭ ‬شرق‭ ‬آسيا‭. ‬برحيل‭ ‬صلاح‭ ‬فضل‭ ‬يتهاوى‭ ‬عمود‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬أعمدة‭ ‬النقد‭ ‬العربيّ‭ ‬الحديث‭ ‬بعد‭ ‬رحيل‭ ‬الآباء‭ ‬المؤسسين‭: ‬وداعًا‭ ‬معلمي‭!‬ { بقلم‭: ‬الدكتورة‭ ‬ضياء‭ ‬عبدالله‭ ‬خميس‭ ‬الكعبيّ أستاذة‭ ‬السرديات‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبيّ‭ ‬الحديث‭ ‬المشارك، كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين‭.‬

مشاركة :