في تسعينيات القرن العشرين كنتُ طالبة بكالوريوس اللغة العربيّة وآدابها بكلية الآداب بجامعة البحرين، وكنتُ محظوظة جدًا بتأسيسي النقدي والمعرفي على أيدي نخبة من أبرز النقاد الأكاديميين العرب والبحرينيين من أطياف مرجعيات متباينة حدَّ الصدامات والسجالات النقدية المبدعة التي تركت أثرها على جيلي كاملاً. لقد خلق منا هذا التباين وصراع الأضداد الجميلة شخصياتٍ معرفيّةً تؤمن إيمانًا تامًا بمساحاتٍ من الاختلاف الثقافي الذي يثري في تعددية أصواته، وبإيمانه بأنَّ ثمَّة تحولات عميقة يمر بها الناقد في مسارات تشكلاته، وأنَّه لا توجد حقائق مطلقة في حقل الآداب والعلوم الإنسانيّة هناك فقط نصوص قابلة للتلقي والتأويل. لقد كنتُ محظوظة جدًا بأنّني تعلمتُ أبجديات النقد الأدبيّ الحديث من أستاذي البروفيسور صلاح فضل الذي فتح أعيننا على مصادر النقد الأدبيّ الحديث في متونه النقدية الغربيّة مع تطبيقاتها النقدية العربيّة الحديثة في الشعر، والرواية، والقصة القصيرة، والمسرحية الحديثة، وكنا نطالع معه ونستنطق التيارات النقدية الحديثة الرومانطيقية إلى الأسلوبية، والواقعية الاشتراكية، والبنيوية، والسيميولوجيا، وتحليل الخطاب وغيرها. لقد كنا مصابين بحمى البحث عن قائمة من المصادر والمراجع التأسيسية النقدية الحديثة غير الموجودة في مكتبة الجامعة، ونتبارى في سبيل العثور عليها وطلبها أحيانًا من بعض العواصم العربيّة؛ فلم تكن المنصات الإلكترونية وقتها مشاعة كما هو الآن، وكان المحتوى الأكاديمي في الشبكة العنكبوتية نزرًا يسيرًا لا يسمن ولا يغني من جوع، ومع كلِّ كتاب نعثر عليه بمشقة بالغة نحتفي احتفاءً كبيراً بفرحة الاقتناء والاطلاع. أستاذي البروفيسور صلاح فضل كان يحرضنا على التزود بمعرفة مغايرة مختلفة، وكان شديد المواكبة لكلِّ ما هو جديد من النصوص النقدية وحتى الإبداعيّة، وفي تنبيهنا إلى أنَّ هناك جديدًا في الساحة الإبداعية يستحق عنايتنا إذ لم يكتفِ بالنصوص الإبداعية العربيّة الحديثة والجديدة، وإنما التفت كذلك إلى الإبداع الخليجي واحتفى بصدور رواية (شقة الحرية) لغازي القصيبي وعدها مسارًا فارقًا جديدًا للقصيبي وعدَّها رواية مؤثرة، وبالفعل كانت كذلك في حجم تأثيرها في مجال الرواية السعودية الجديدة. لقد آمن صلاح فضل بتلامذته و بقدراتهم النقدية وشجّعهم على أن يكونوا نقادًا مستقبليين، ولا أزال حتى الآن أتذكر تشجيعه لي بأنَّ كتاباتي ومقارباتي النقدية مستوعبة ومتميّزة واستثنائية، وبقي هذا التشجيع يرافقني عندما أصادف أستاذي في بعض المؤتمرات النقدية المتخصصة في مجال النقد الأدبيّ الحديث، وفي مجال الرواية والسرديات الجديدة، وهناك غيري كثيرون أثَّر فيهم صلاح فضل الناقد الأكاديمي ببصيرته النقدية وبمحايثته للحداثة النقدية بأسسها المعرفيّة وبإشكالاتها التطبيقيّة في العالم العربي، وفي غرسه فينا وعيًا نقديًا مغايرًا علّمنا فيه كونية الأدب دون فقدان خصوصياته المحلية، وارتحلنا معه نقديًا في تطبيقات النصوص من الأدب العربيّ الكلاسيكيّ إلى الرواية الغربيّة وإلى أدب أمريكا الجنوبية مع خورخي لويس بورخيس وغابرييل غارسيا ماركيز، وإلى خرق المركزية النقدية الأوربية مع نصوص روائية مترجمة من الهند ومن شرق آسيا. برحيل صلاح فضل يتهاوى عمود آخر من أعمدة النقد العربيّ الحديث بعد رحيل الآباء المؤسسين: وداعًا معلمي! { بقلم: الدكتورة ضياء عبدالله خميس الكعبيّ أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث المشارك، كلية الآداب، جامعة البحرين.
مشاركة :