* أتينا في الجزء الأول من هذا المقال (https://www.al-jazirah.com/2022/20221218/ar2.htm)؛ على لمحات سريعة من علاقة الصين بالعرب وبالإسلام الذي دخلها في الثلث الأول من القرن الهجري الأول. ماذا بعد ذلك من مصالح وتشاركات تجارية ونحوها ربطت بين هذا البلد الكبير؛ وبين العرب والمسلمين، وخاصة في القارة المشتركة (آسيا)..؟ * من الواضح اليوم؛ أنه كان للإسلام دور مهم في إبراز شخصية الشعب الصيني، وصقل حضارته، ونلمس هذا في مسلمي الصين الذين عرفناهم، ومن حرص القيادات الصينية المتتالية على تمتين علاقة بلادهم بالعرب والمسلمين، وخير شاهد على هذا؛ وجود القيادة الصينية الحالية في الرياض عاصمة القرار، ومحادثاتها مع القادة السعوديين والخليجيين والعرب. هذا في زماننا هذا. ولو عدنا إلى عصور خلت، لأدركنا هذا العمق بصور مختلفة. فعلى سبيل المثال؛ هذه قصة القائد العربي الإسلامي الفذ: (قتيبة بن مسلم الباهلي)، مع الإمبراطور (شوان زونغ 93-139هـ/ 712- 756م)، إمبراطور الصين خلال عصر أسرة تانغ. * ولد قتيبة في بيت إمرة وقيادة وحكم في مدينة البصرة العراقية عام (49هـ- 669م)، لأسرة من قبيلة باهلة العربية النجدية، وفي عصر الخليفة الأموي (عبدالملك بن مروان)؛ ولاه مدينة الري، ثم ولاه بعدها خراسان عام 86هـ خلفًا للقائد: (المهلب بن أبى صفرة ت 82 أو 83 هـ)، الذي كان قد تولاها منذ عام 78هـ، وفور وصول قتيبة بن مسلم إلى خراسان؛ علا بهمته إلى فتح بلاد ما وراء النهرين، ونشر دين الإسلام فيها، فاسترد منطقة (طخارستان - جزء من أفغانستان وباكستان حالياً)، وذلك عام 86هـ، وأكمل فتح بخارى وما حولها من القرى والحصون بين عامي (87-90هـ)، ثم أكمل فتح إقليم (سجستان، وإقليم خوارزم)، ووصلت فتوحاته إلى مدينة سمرقند، الذي ضمها سنة 93هـ، ونجحت فتوحاته بين عامي (94-96هـ)، في فتح حوض نهر سيحون بما فيه من مدن، ثم دخل أرض الصين، وأوغل فيها، ووصل مدينة كاشغر، وجعلها قاعدة إسلامية، وكان هذا آخر ما وصلت إليه جيوش إسلامية في آسيا شرقًا، ولم يصل أحد من المسلمين أبعد من ذلك قط. * أورد ابن الأثير هذه الحادثة كما يلي: كان قتيبة بعد أن فتح كاشغر؛ قد كتب له ملك الصين أن يبعث له رجلًا شريفًا يخبره عنهم وعن دينهم، فانتخب قتيبة عشرة لهم جمال وألسن وبأس وعقل وصلاح، فأمر لهم بعدة حسنة، ومتاع حسن من الخز والوشي وغير ذلك، وخيول حسنة، وكان منهم (هبيرة بن مشمرج الكلابي)، فقال لهم قتيبة: إذا دخلتم على ملك الصين؛ فأعلموه أني قد حلفت أني لا أنصرف حتى أطأ بلادهم، وأختم ملوكهم، وأجبي خراجهم. سار وفد المسلمين يترأسهم هبيرة، فلما قدموا عليهم؛ دعاهم ملك الصين، فلبسوا ثيابًا بياضًا تحتها الغلائل، وتطيبوا، ولبسوا النعال والأردية، ودخلوا عليه وعنده عظماء قومه، فجلسوا ولم يكلمهم الملك ولا أحد ممن عنده، فنهضوا. فقال الملك لمن حضره: كيف رأيتم هؤلاء..؟ قالوا: رأينا قومًا ما هم إلا نساء، ما بقي منا أحد إلا انتشر ما عنده.. * فلما كان الغد؛ دعاهم الإمبراطور: (شوان زونغ) إلى مجلسه، فلبسوا الوشي والعمائم الخز والمطارف، وغدوا عليه؛ فلما دخلوا قيل لهم: ارجعوا. ثم قال الإمبراطور لأصحابه: كيف رأيتم هذه الهيئة..؟ قالوا :أشبه بهيئة الرجال من تلك.. فلما كان اليوم الثالث؛ دعاهم، فشدوا سلاحهم، ولبسوا البيض والمغافر، وأخذوا السيوف والرماح والقسي؛ وركبوا، فنظر إليهم ملك الصين، فرأى مثل الجبل، فلما دنوا؛ ركزوا رماحهم، ودفعوا خيلهم كأنهم يتطاردون. فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم..؟ قالوا: ما رأينا مثل هؤلاء.. فلما أمسى الإمبراطور؛ بعث إليهم أن ابعثوا إليَّ زعيمكم، فبعثوا إليه هبيرة، فقال له ملك الصين: قد رأيتم عظم ملكي، وأنه ليس أحد يمنعكم مني، وأنتم في يدي بمنزلة البيضة في كفي، وإني سائلكم عن أمر؛ فإن لم تصدقونِ؛ قتلتكم. * عندها قال الإمبراطور: لمَ صنعتم بزيكم الأول اليوم الأول والثاني والثالث ما صنعتم..؟ فرد عليه هبيرة قائلًا: أما زينا الأول: فلباسنا في أهلنا، والثاني: فزينا إذا أمنّا أمراءنا، والثالث: فزينا لعدونا. فقال الإمبراطور: ما أحسن ما دبرتم دهركم.. فقولوا لصاحبكم ينصرف، فإني قد عرفت قلة أصحابه، وإلا بعثت إليكم من يهلككم. فقال له هبيرة: كيف يكون قليل الأصحاب؛ من أول خيله في بلادك، وآخرها في منابت الزيتون..؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل؛ فإن لنا آجالًا إذا حضرت؛ فأكرمها القتل، ولسنا نكرهه، ولا نخافه، وقد حلف أن لا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، وتعطوا الجزية. قال الإمبراطور: فإنا نخرجه من يمينه، ونبعث تراب أرضنا فيطأه، ونبعث إليه ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها.. وتُظهر القصة؛ خشية الإمبراطور (شوان زونغ) من بأس جيش المسلمين وقائدهم قتيبة، فبادر مهرولًا إلى إرسال سفارة إلى قتيبة، مشمولة بهدية عظيمة، وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم، ثم أجازهم فأحسن، فقدموا على قتيبة، فقبل منهم الجزية، وختم الغلمان وردهم، ووطئ التراب. وعن هذه البعثة إلى بلاد الصين؛ قال (سوادة بن عبد الملك السولي): لا عيب في الوفد الذين بعثتهم للصين أن سلكوا طريق المنهج كسروا الجفون على القذى خوف الردى حاشا الكريم هبيرة بن مشمرج أدى رسالتك التي استرعيته فأتاك من حنث اليمين بمخرج * وبعد هذه الحادثة في ختام القرن الهجري الأول؛ اهتمت المصادر التاريخية الصينية بتاريخ العرب وسياساتهم وعلاقاتهم بالصين وأسرة تانغ، وتوالت الإشارة إلى السفارات العربية في النصوص والمصادر الصينية القديمة، حيث تم تسجيل وتوثيق وصول سفارات وبعثات عربية لسبع وثلاثين مرة، كما سجلت المصادر الصينية وصول عشرين سفارة فارسية من المسلمين. وفي هذه العلاقات (الذهبية) المتميزة بين الصين والعرب والمسلمين؛ نمت التجارة، وكسب الطرفان ذهبها وما زالا. * وكان للشعر الصيني دوره دون شك في هذا التميز خاصة إذا أتى من الإمبراطور الصيني: (هونغوو عام 1300م)، فقد كتب قصيدة من مائة كلمة؛ يمتدح فيها خصال النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. وقد وزعت وقتها على المساجد في الصين. هذه ترجمتها: منذ خلق الكون كان الله قد اصطفى هذا الواعظ العظيم من الغرب كانت ولادته وتلقّيه الصحف المقدسة وكتاباً من 30 جزءًا لإرشاد الخلائق جميعًا، سيد الزعماء جميعًا، رأس القديسين بعون من السماء ليكون حامي أمته بخمس صلوات يومية مفعم بالأمل الهادي من أجل السلام قلبه المتّجه نحو الله مانحًا القوة للفقراء منقذًا إياهم من الكارثة يرى الرؤيا من الغيب يسحب النفوس والأرواح من الآثام رحمة للعالمين نذيرًا منذ القدم صراطه مهيب خالي من الشرور دينه نقي وصحيح محمد ..سمو النبل والشرف
مشاركة :