إبراهيم رسول الحديثُ عن تجربةِ الشاعر محمد الشحات, هو حديثٌ عن تجربةٍ طويلةٍ في عالم الشعر, يستدعي الرجوع إلى بداياتها الأولى ومن ثمَ مواكبة التطورات التي حصلت بعدها, وقراءة مراحل التطور والنبوغ الشعري لمعرفة الإنسان الشاعر الذي نما وترعرع ونشأ نشأة شعرية خالصة, أضافت للشعر شاعريةً وأعطته متعة فنّيّة باقية مع الشعر ما بقي الشعر. ماءُ الشعر نبعٌ صافٍ في مخيلتهِ التي تمدهُ بوحي الشعر, فهو شاعرٌ يتكأ على معجمٍ لغويٍ ماؤهُ خالٍ من الغبرة التي تلوث جمال الشعر وصورته الفنّيّة, فقارئ تجربة الشاعر محمد الشحات, يلمحُ أنها غزيرةٌ كمًا ونوعًا, إذ أنها تضم حوالي أربعة مجلداتٍ من الحجم المتوسط, وكل مجلدٍ تبلغ عدد صفحاتهِ حوالي خمسمئة صفحة, فهذه التجربة مادة غنّية للقارئ الباحث والمتلقي على اختلاف درجات التقبل والتفاعل بينهما. فالقراءةُ لهذه التجربة أو في هذه التجربة, تحتاج إلى عقلٍ جماليٍ يتذوق كل هذا الشعر, وطبيعيٌ أن تجد عند كل تجربة, ما يروق لك وما لا يروق, فطبيعةُ الكمال للهِ وحده ولا جمال مطلق لأي مخلوقٍ مهما علت رتبته وارتقت منزلته, ولكن ما يُحسب للشاعر الشحات, أنه معنيٌ بالفن أكثر من عنايتهِ بغيره, لذلك هو يكتب للشعر لا للقضايا التي تستفزه لكتابةِ الشعر. المعجمُ الشعريُ عند الشحات, جزءٌ من تجربةٍ طويلة, ساهمت التجربة كثيرًا في تنمية أفق الشاعر فكريًا لكنها لم تعطهِ الشعر بثوبٍ فكريٍ, لذا، فأنت واجدٌ في شعرهِ الشعر الخالص أو الشعر الذي امتزجت به القضية تحت أيّ مسمى كانت, فالتجربةُ هي وعيٌ كبيرٌ اكتسبهُ الشاعر على مدى عقودٍ كثيرة من عمرهِ الشعري, فهو يوظفُ أشياءً كثيرة , اعتمادًا على موهبته الشعرية الطويلة, ويستعينُ بالوظائف الثانوية للشعر, فالشعرُ عنده يمثلُ حالة فنّية وإنسانية, أي رسالة يوجهها للمتلقي, وكما يقول الدكتور عثمان موافي في كتابهِ في نظرية الأدب, من قضايا الشعر والنثر العربي في الجزء الأول صفحة 44: فليس الوزن إذن, هو المزية الوحيدة للشعر, بل هناك مزايا وصفات أخرى, كالجزالة اللفظية, والإيجاز في التعبير, وحسن التخييل, وجمال التصوير, وأحكام الصنعة الفنّية. وفق هذا القول نجد أن الشاعر الشحات في شعرهِ يعتمد على هذه المزايا وقد أتقنَ توظيفها التوظيف الصحيح, فهو يقولُ في قصيدةٍ له في الجزء الرابع من موسوعته الشعرية: انتهيتُ من الصمتِ لم أنتبه أن خيط الكلام تشابكَ واختلطتْ أحرفي ومضتْ فرحتُ أساومُها حين فرَّتَ فلو كنت أعرفُ أن الكلامَ سيغضبُ ما لذتُ بالصمتْ في هذا النصّ, يقدمُ الشحات رؤيتهُ في الصمت الذي يكون أبلغ الأثر من الكلام في أحيانٍ كثيرةٍ, إلا أن هناك يشعر بخيبةٍ, وهذه الخيبة جعلته يعترف بأنهُ أخطأ في اللجوء إلى الصّمت. الملاحظُ لتجربة الشاعر الشحات, يجد أنه يلتزم في الايقاع الشعري والرسالة الشعرية, فالشعرُ عنده يكتسي العديد من الألوان والصور التي يعبر من خلالها عن مضمونهِ, إذ أنّ المرتبة الأهم عنده هي الصورة النهائية التي سيبدو من خلالها, شاعرًا تجربة, وهذه التجربة مكتملة العناصر, وكما يقول الدكتور عثمان موافي كتابهِ ( في نظرية الأدب قضايا الشعر والنثر في النقد العربي, الجزء الأوّل , صفحة 44: فليس الوزن إذن, هو المرتبة الوحيدة للشعر, بل هناك مزايا وصفات أخرى, كالجزالة اللفظية, والإيجاز في التعبير, وحسن التخييل, وجمال التصوير , وأحكام الصنعة الفنّية. فهنا الناقدُ يوضحُ ان الشعر لا يقتصر على الوزن وحده, بل هناك العديد من المزايا والصفات التي لا يمكن للشعر أن يستغني عنها. أين أنت يا أبي سألت أبي كيف كنت تمارس ضعفك أو كيف كنت تقاوم حين تنوء عليك المنون وهل كنت تبكي؟ وهل كنت تخفي انكسارات عينيك حين تمارس حزنك هل كان دمعك مثل دموعي؟ وهل خفت تختزنُ ذاكرة الشحات بالعديد من الصور القديمة التي ما تزال تؤرقه في صحوهِ ومنامهِ, فهو يعيش الذكريات الأبوية ويُسائل الماضي الذي كان والده حيَّا فيه, يُسائلهُ بلغةٍ تفيض شاعرية ومحبةً, الألمُ الذي تختزنه الذاكرة, صِيغَ في صورةٍ مؤلمةٍ, والصورُ المؤلمة تُعبرُ بشفافيةٍ أكثر من غيرها, فالشعرُ جاءَ نتيجةَ ألمٍ نفسيٍ وجدانيٍ, يكابدهُ الشاعر. في هذا النص الحواري, الذي صيغ بأسلوبٍ شفيفٍ بين الأبن والأب, تخلطُ مشاعر الأبوة مع الطاعة والقلق والرأفة , فالأبنُ يكن لوالده عظيم الاحترام والبرّ, الشاعر _ الابن, يحاور والده على ساعات ألمهِ, وساعات دموعهِ, الشعرُ هنا صار مترجمًا لحالة الوجدان الممتزج بالذكريات الشفيفة. وفي نصٍّ آخر من مجموعته المهمة يقول: حان وقت الرحيل لم يعد ممكنًا أن أراجعَ كل التفاصيل أن أتخير ما أستهل به أول اليوم أن أنتقي ما تراكم في لغتي كي أعبّر عن حالة الضيق إني أراهمُ يمرون قبل مواعيدهم فلا أنتبه حتى أودعهم أو أقول: سلامًا.... تجربة الشحات محمد, تجربة تختزن في داخلها الكثير من المشاعر الدفينة في داخل النفس, ولم تجد مكانًا لها لتنطلق وتعبر من خلاله إلا ساحة الشعر, هي مشاعرٌ تعتمد على إيحاء الصوت الجواني للنفس التي أرقها وعذبها الحنين والشوق والمحبة, فصارت هذه النفس , تحنُّ إلى من تألفهم وتأنس صحبتهم, فهؤلاء الذي فاضت قريحة الشاعر بمحبتهم ومودتهم, هؤلاء يعنون الكثير للشاعر محمد الشحات, فهو يحاورهم بصوتٍ داخليٍ, إلا أن الرجوع إلى الوراء ومعرفة كل تلك الجزئيات أو التفاصيل لم يعد سهلًا, فهو غير قادر على استحضار كل تلك التفاصيل التي أثرت به وتفاعل معها التفاعل الايجابي الذي ترك في نفسه أعظم الأثر. فلغتهُ متراكمة, ومتشعبة وكثيرة إلا أن لا يستطيع أن ينتقي منها ما يريد, ويالها من صعوبةٍ بالغةٍ ان يصلَ الحال بالإنسانِ إلى مثل هذا الحال! فهو يريد أن يعبر عن حالة الضيق وحالة إلا أن غير قادرٍ على أن يختار من لغته بعض الكلمات لتعبر عنه! ومن مزايا شعر الشحات, أنه يتصفُ بالحياة والسلوك, ويقترب من واقع الحياة ويلامسها بصورةٍ واضحة دون لبسٍ, فهو يستمد مادته من هذه الحياة, أيّ أنه لم يعزل روحه وكيانه عن واقع يوميه المعاش, فهو منشغلٌ بهذه اليوميات التي يتفاعل معها ويندمج في خضمِ مشاكلها, وكما يقول الأديب محمد نديم خشنة في كتابه تأصيل النص المطبوع في سنة 1997 بطبعته الأولى, الصفحة 12: إن أي فكر أو أثر إبداعي لا يكتسب دلالاته الحقيقية إلا عند اندماجه في نفق الحياة أو السلوك, زد على ذلك انه لا يكون السلوك الذي يوضح الأثر هو غالبًا سلوك الكائن نفسه, بل سلوك الفئة الاجتماعية التي لا ينتمي إليها الكاتب بالضرورة. وهذا ما يتفق وتجربة الشحات, فهو يستمد من الحياة مادته الخام في الشعر, ويؤطرها بإطار من المشاعر التي تجعلها غضة طرية, نحن لا نقرأ للشحات شعرًا مموسقًا فحسب, بل نحن نقرأ له الشعر التأملي الذي نطيل التأمل فيه وما وراءه وفيما يتركه فينا من أثر, فتجربة الشحات, تستدعي متلقٍ غير عجول, ومتلقٍ غير ملول, فهو شعرٌ يدعوك إلى سياحةٍ فكريةٍ, تتأمل فيما قرأت وفيما تأثرت, هذا التأثر سيعكس فيك ردة فعلٍ جماليةٍ, لأنّك الشعر عملية إثارة وأثر.
مشاركة :